{ وَأَمَّا الْغُلَامُ ْ } الذي قتلته { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ } وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ، أي : لحملهما على الطغيان والكفر ، إما لأجل محبتهما إياه ، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك ، أي : فقتلته ، لاطلاعي على ذلك ، سلامة لدين أبويه المؤمنين ، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة ؟ " وهو وإن كان فيه إساءة إليهما ، وقطع لذريتهما ، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية ، ما هو خير منه ، ولهذا قال : { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } .
يقول تعالى ذكره : وأما الغلام ، فإنه كان كافرا ، وكان أبواه مؤمنين ، فعلمنا أنه يرهقهما . يقول : يغشيهما طغيانا ، وهو الاستكبار على الله ، وكفرا به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذُكر ذلك في بعض الحروف . وأما الغلام فكان كافرا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : «وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرا » في حرف أُبيّ ، وكان أبواه مؤمنين فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاه مُوْمِنَيْنِ وكان كافرا بعض القراءة . وقوله : فَخَشِينا وهي في مصحف عبد الله : «فخَافَ رَبّكَ أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا » .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عباس الهمْداني ، عنا بن إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الغُلامُ الّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرا » .
والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظنّ ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان . وقد بيّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى قوله خَشِينا في هذا الموضع : كرهنا ، لأنّ الله لا يخشَى . وقال في بعض القراءات : فخاف ربكُ ، قال : وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا ، وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما .
تقدم القول في { الغلام } ، والخلاف في بلوغه أو صغره ، وفي الحديث : أن ذلك الغلام طبع يوم طبع كافراً ، وهذا يؤيد ظاهره أنه كان غير بالغ ، ويحتمل أن يكون خبراً عنه ، مع كونه بالغاً . وقيل اسم الغلام جيسور بالراء ، وقيل جيسون بالنون ، وهذا أمر كله غير ثابت ، وقرأ أبي بن كعب : «فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين » ، وقرأ أبو سعيد الخدري «فكان أبواه مؤمنان » فجعلها كان التي فيها الأمر والشأن{[7875]} ، وقوله { فخشينا } قيل هو في جملة الخضر ، فهذا متخلص . والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه ، وقيل هو في جهة الله تعالى ، وعنه عبر الخضر قال الطبري معناه فعلمنا وقال غيره معناه فكرهنا والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل ، وإن كان اللفظ يدافعه ، أنها استعارة ، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين ، لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين ، وقرأ ابن مسعود «فخاف ربك » وهذا بين في الاستعارة وهذا نظير ما يقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى : فإن جميع ما في هذا كله ، من ترج وتوقع ، وخوف ، وخشية ، إنما هو بحبكم أيها المخاطبون ، و { يرهقهما } معناه يحثهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وأما الغلام"، فإنه كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين، فعلمنا أنه "يرهقهما". يقول: يغشيهما طغيانا، وهو الاستكبار على الله، وكفرا به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد ذُكر ذلك في بعض الحروف. وأما الغلام فكان كافرا... والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظنّ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان...
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى قوله "خَشِينا "في هذا الموضع: كرهنا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: قتله لكفره؛ كان كافرا، وكذلك ذُكر في حرف أُبَيٍّ بْنِ كَعْبِ: وأما الغلام فكان كافرا. ألا ترى أنه قال: {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} دل هذا أنه كان بالغا كافرا، إذ لو لم يكن كافرا لم يلحق والديه منه الطغيان والكفر.
وقال بعضهم: إنما قتله لأنه كان لِصًّا قاطع الطريق (يقطع الطريق) وعلى قول من يقول: إنه كان صغيرا قتله لأنه علم أنه لو بلغ بلغ كافرا، والله أعلم بذلك. وليس لنا إلى معرفة ذلك السبب الذي قتله حاجة، ولا أنه كان صغيرا أو كبيرا لأنه أخبر أنه إنما قتله بأمر الله لا من تلقاء نفسه حين قال: {وما فعلته عن أمري} (الكهف: 82) ولكن إنما فعلته بأمر الله، لله أن يأمر عبدا من عباده بقتل الصغير على ما له أن يميته وعلى ما يأمر ملك الموت بقبض أرواح الخلق. فعلى ذلك له أن يميته على يدي آخر، وأن يقبض روحه؛ إذ له الخلق والأمر.
{فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا}؛ ليس، هو الخوف، ولكن: العلم؛ أي علمنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا. وكذلك ذكر في حرف أُبَيٍّ. فإن قيل: كيف احتج على قتله وإهلاكه بما علم أنه يلحق أبويه منه الطغيان والكفر، وقد ترك إبليس وجنوده يعيشون إلى آخر الدهر على علم منه أنهم يحملون الناس على الطغيان والكفر، ويرهقونهم بأنواع المعاصي والفواحش، وكذلك هؤلاء الظلمة الذين لا يكون منهم إلا كل شر وجور على الناس من تركهم على علم منه بما يكون منهم. فما معنى الاحتجاج في قتله وإهلاكه بما ذكر من إرهاق الوالدين بالطغيان والكفر؟. قيل: لهذا جوابان:
أحدهما: أن الله عز وجل قد يمتحن البشر بمعان وعلل وأشياء، تحملهم تلك المعاني والأشياء على الرغبة والحنث في ما امتحنهم، وإن كان له الامتحان لا على تلك المعاني والعلل نحو ما امتحنهم بأنواع العبادات والطاعات بثواب وجزاء ذكر لهم فيها لو فعلوا، وإن كان الامتحان بذلك على غير ثواب ولا جزاء. وكذلك العقوبات وغير ذلك من المحن. فعلى ذلك الأولى.
والثاني: ذكر هذا ليُطَيِّبَ به أنفسهم إحسانا منه إليهم وإنعاما عليهم؛ إذ له أن يميتهم صغارا وكبارا. وعلى ذلك يُخَرَّجُ قوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده} (الشورى: 27) وقد وسع على كثير من الخلق. وكذلك قوله: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} الآية (الزخرف: 33) وقد جعل للكثير من الخلق ذلك هذا لما له أن يفعل ذلك للكل. فمن يفعل ذلك يفعل إحسانا منه وإفضالا، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّن له أَنَّ قَتْلَ الغلامِ لمَّا سَبَقَ به العلمُ مَضَى من الله الحُكْمُ أنَّ في بقائه فِتْنةً لِوالِدَيْه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً} فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما، وكفراً لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدّا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان، وإنما خشي الخضر منه ذلك؛ لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سرّ أمره. وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأما الغلام} أي الذي قتلته {فكان أبواه مؤمنين} وكان هو مطبوعاً على الكفر -كما يأتي في حديث أبيّ رضي الله عنه.
ولما كان يحتمل عند الخضر عليه السلام أن يكون هذا الغلام مع كفره في نفسه سبباً لكفر أبويه إن كبر، وكان أمر الله له بقتله مثل فعل من يخشى ذلك، أسند الفعل إليهما في قوله: {فخشينا أن يرهقهما} أي يغشيهما ويلحقهما إن كبر بمحبتهما له أو بجراءته وقساوته {طغياناً} أي تجاوزاً في الظلم وإفراطاً فيه {وكفراً} لنعمتهما فيفسد دنياهما أو يحملهما حبهما له على الطغيان والكفر بالله طاعة فيفسد دينهما، روى مسلم في القدر وأبو داود في السنة والترمذي في التفسير عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً"...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
لم يصرِّح بكفْرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذِّكْر لظهوره...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قيل...: إن الخضر عَلِمَ بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يَتسبَّب عن كفره إضلالُ أبَوَيْه وكفرُهما، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأْباه، فإنّ قتْل مَن لا ذنبَ له ولا قد جَرى عليه قَلَمُ التكليفِ لخَشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتْلُه لا يَحِلُّ في الشريعة المُحَمَّدِيّة، ولكنه حَلَّ في شريعةٍ أخرى، فلا إشكالَ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخشية: توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله.
وضميرا الجماعة في قوله {فَخَشِيَنَا} وقوله {فَأَرَدْنَا} عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال: {فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا}، ولم يقل مثله عندما قال {فَأَرَدتُ أنْ أعِيبَها} لأنّ سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون} في سورة يوسف (79).
الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحلم وسن التكليف، ومادام لم يكلف فما يزال في سن الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال: {أقتلت نفساً زكيةٍ} أي: طاهرة، ولاشك أن أخذ الغلام في هذه السن خير له ومصلحة قبل أن تلوثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب. إذن: فطهارته هي التي دعتنا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟ يقول تعالى: {فكان أبواه مؤمنين}: وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.. "14 "} (سورة التغابن): والفتنة بالأولاد تأتي من حرص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في احسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد علم الحق سبحانه وتعالى أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يرد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان. وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أسدي إلى كليهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام. لذلك يعد من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أن يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعت وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أعد له من النعيم، لا ندري أن من أخذ من أولادنا قبل البلوغ لا يحدد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يسمون "دعاميص الجنة". ثم يقول تعالى: {فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً} خشينا: خفنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} من الذين يمثلون الإيمان الفاعل المتحرك الذي يريد الله له أن يتجسد في الواقع بقوّةٍ وصلابةٍ وامتداد، ولذلك كانت إرادته في أن يجنّبهما التجربة القاسية التي يتعرض لها الأبوان في الصراع بين العاطفة والواجب، عندما يكون لهما ولدٌ منحرفٌ يعيش في دائرة الكفر والضلال. {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} وذلك باستخدام موقعه العاطفي في سبيل إغوائهما للسير في خط الكفر والطغيان، أو يكون المراد كما يذهب إليه البعض أن يضغط عليهما، ويسيء معاملتهما، ويحاصرهما في نشاطهما الروحي، وذلك من خلال طغيانه وكفره اللذين لا يراعي معهما أيّة قرابة وأيّة عاطفة.