معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } ، أي : أعداء ، فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : كما ابتليناك بهؤلاء القوم ، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء ، ثم فسرهم فقال : { شياطين الإنس والجن } ، قال عكرمة ، والضحاك ، والسدي ، والكلبي : معناه شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، وليس للإنس شياطين ، وذلك أن إبليس جعل جنده فريقين ، فبعث فريقاً منهم إلى الإنس ، وفريقاً منهم إلى الجن ، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه ، وهم الذين يلتقون في كل حين ، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن : أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله ، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك ، فذلك { يوحي بعضهم إلى بعض } . قال قتادة ، ومجاهد ، والحسن : إن من الإنس شياطين ، كما أن من الجن شياطين ، والشيطان : العاتي المتمرد من كل شيء ، قالوا : إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه ، يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ فقلت : يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال نعم ، هم شر من شياطين الجن . وقال مالك بن دينار : إن شياطين الإنس أشد علي من شياطين الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شياطين الجن ، وشيطان الإنس يجيئني ، فيجرني إلى المعاصي عياناً .

قوله تعالى : { يوحي بعضهم إلى بعض } ، أي : يلقي .

قوله تعالى : { زخرف القول } ، وهو قول مموه مزخرف بالباطل ، لا معنى تحته .

قوله تعالى : { غروراً } ، يعني : هؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ، ويغرونهم غروراً ، والغرور : القول الباطل .

قوله تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } ، أي : ما ألقوه من الوسوسة في القلوب .

قوله تعالى : { فذرهم وما يفترون }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

{ 112 ، 113 } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }

يقول تعالى -مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم- وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك ، ويحاربونك ، ويحسدونك ، فهذه سنتنا ، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء ، من شياطين الإنس والجن ، يقومون بضد ما جاءت به الرسل .

{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } أي : يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل ، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة ، ليغتر به السفهاء ، وينقاد له الأغبياء ، الذين لا يفهمون الحقائق ، ولا يفقهون المعاني ، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة ، والعبارات المموهة ، فيعتقدون الحق باطلا والباطل حقا ، ولهذا قال تعالى :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسلّيه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله ، وحاثّا له على الصبر على ما نال فيه : { وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا }يقول : وكما ابتليناك يا محمد بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطين يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ ليصدّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربك كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسل ، بأن جعلنا لهم أعداء من قومهم يؤذونهم بالجدال والخصومات ، يقول : فهذا الذي امتحنتك به لم تخصص به من بينهم وحدك ، بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم ، فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم .

يقول : فاصبر أنت كما صبر أولو العزم من الرسل . وأما شياطين الإنس والجنّ فإنهم مَرَدَتُهم . وقد بيّنا الفعل الذي منه بني هذا الاسم بما أغنى عن إعادته . ونصب العدوّ والشياطين بقوله : جَعَلْنا .

وأما قوله : يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا فإنه يعني : أنه يُلقي الملقي منهم القول الذي زيّنه وحسنه بالباطل إلى صاحبه ، ليغترّ به من سمعه فيضل عن سبيل الله .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : { شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ } فقال بعضهم : معناه : شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجنّ التي مع الجنّ وليس للإنس شياطين .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ } أما شياطين الإنس : فالشياطين التي تضلّ الإنس ، وشياطين الجنّ الذين يضلون الجنّ يلتقيان فيقول كلّ واحد منهما : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيُعلم بعضُهم بعضا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن شريك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة : شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ قال : ليس في الإنس شياطين ولكن شياطين الجنّ يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجنّ .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن السديّ ، في قوله : يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرَفَ القَوْلِ غُرُورا قال : للإنسان شيطان ، وللجنيّ شيطان ، فيَلْقَى شيطان الإنس شيطان الجنّ ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .

قال أبو جعفر : جعل عكرمة والسديّ في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله : { وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا }أولاد إبليس دون أولاد آدم ودون الجنّ ، وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورا ، وَلَدَ إبليس ، وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى من مع الجنّ من ولده زخرف القول غرورا .

وليس لهذا التأويل وجه مفهوم ، لأن الله جعل إبليس وولده أعداء ابن آدم ، فكلّ ولده لكلّ ولده عدوّ . وقد خصّ الله في هذه الاَية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداء ، فلو كان معنيّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السديّ ، الذين هم ولد إبليس ، لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبر عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً وجهٌ . وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه مثل الذي جعل لهم ، ولكن ذلك كالذي قلنا من أنه معنيّ به أنه جعل مردة الإنس والجنّ لكلّ نبيّ عدوّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد بن هلال ، قال : ثني رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذرّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا أبا ذرّ ، هَلْ تَعَوّذْتَ باللّهِ مِنْ شَرّ شَياطِينِ الإنْسِ والجِنّ ؟ » قال : قلت : يا رسول الله ، هل للإنس من شياطين ؟ قال : «نَعَمْ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة ، عن ابن عائذ ، عن أبي ذرّ ، أنه قال : أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس ، قال : فقال : «يا أبا ذَرّ ، هَلْ صَلّيْتَ ؟ » قال : قلت : لا يا رسول الله قال : «قُمْ فارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ » قال : ثم جئت فجلست إليه ، فقال : «يا أبا ذَر هَلْ تَعَوّذْتَ بالله مِنْ شَرّ شَياطِين الإنْس والجِنّ ؟ » قال : قلت : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين ؟ قال : «نَعَمْ ، شَرّ مِنْ شَياطِين الجِنّ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني أن أبا ذرّ قام يوما يصلي ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تَعَوّذْ يا أبا ذَرّ مِنْ شَياطِين الإنْس والجِنّ » فقال : يا رسول الله : أوَ إنّ من الإنس شياطين ؟ قال : «نعم » .

وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا من ذلك إنه إخبار من الله أنّ شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : شَياطِينَ الإنْس والجِنّ قال : من الجنّ شياطين ، ومن الإنس شياطين يوحي بعضهم إلى بعض . قال قتادة : بلغني أن أبا ذرّ كان يوما يصلي ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تَعَوّذْ يا أبا ذَرّ مِنْ شَياطِين الإنْسِ والجِنّ » فقال : يا نبيّ الله ، أو إنّ من الإنس شياطين ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ . . . الاَية ، ذكر لنا أبا ذرّ قام ذات يوم يصلي ، فقال له نبي الله : «تَعَوّذْ بالله مِنْ شَياطِينَ الجِنّ والإنْس » فقال : يا نبيّ الله أو للإنس شياطين كشياطين الجنّ ؟ قال : «نَعَمْ ، أوَ كَذَبْتُ عَلَيْهِ ؟ » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : وكذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدوّا شَياطِينَ الإنْس والجِنّ فقال : كفار الجنّ شياطين يوحون إلى شياطين الإنس كفار الإنس زخرف القول غرورا .

وأما قوله : زخْرفَ القَوْل غُرورا فإنه المزين بالباطل كما وصفت قبل ، يقال منه : زخرف كلامه وشهادته إذا حسن ذلك بالباطل ووشّاه .

كما :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن شريك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة ، قوله : زخْرفَ القَوْل غُرورا قال : تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما الزخرف ، فزخرفوه : زيّنوهُ .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : زُخْرفَ القَوْل غُرُورا قال : تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : زُخْرَفَ القَوْل غُرُورا يقول : حسّن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : زُخْرُفَ القَوْل غُرُورا قال : الزخرف : المزيّن ، حيث زيّن لهم هذا الغرور ، كما زين إبليس لاَدم ما جاءه به وقاسمه إنه لمن الناصحين . وقرأ : وَقَيّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيّنُوا لَهُمْ قال : ذلك الزخرف .

وأما الغرور : فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصده عن الصواب إلى الخطأ ومن الحقّ إلى الباطل . وهو مصدر من قول القائل : غررت فلانا بكذا وكذا ، فأنا أغرّه غرورا وغرّا . كالذي :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : غُرُورا قال : يغرّون به الناس والجنّ .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ .

يقول تعالى ذكره : ولو شئت يا محمد أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداء من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم ، فعلتُ ذلك ولكني لم أشأ ذلك لأبتلي بعضهم ببعض فيستحقّ كلّ فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق .

فَذَرْهُمْ ، يقول : فدعهم ، يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجنّ ، وَما يَفْتَرُونَ يعني : وما يختلفون من إفك وزور .

يقول له صلى الله عليه وسلم : اصْبر عَلَيْهِمْ فإنّي مِنْ وَرَاءِ عِقابِهِمْ على افْتِرَائِهِمْ على اللّهِ وَاخْتِلاقِهِمْ عَلَيْهِ الكَذِبَ والزّورَ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

وقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي } الآية ، تتضمن تسلية النبي عليه السلام وعرض القدوة عليه ، أي إن هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله أولي العزم منهم ، و { عدواً } مفرد في معنى الجمع ، ونصبه على المفعول الأول ل { جعلنا } المفعول الثاني في قوله { لكل نبي } ، و { شياطين } بدل من قوله { عدواً } ، ويصح أن يكون المفعول الأول { شياطين } والثاني { عدواً } ، وقوله { شياطين الإنس والجن } يريد به المتمردين من النوعين الذين{[5064]} هم من شيم السوء كالشياطين ، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده حديث أبي ذر أنه صلى يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس ، قال وإن من الإنس لشياطين ؟ قال : نعم{[5065]} » قال السدي وعكرمة : المراد بالشياطين الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن ، وزعماً أن للجن شياطين موكلين بغوايتهم وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض ، قالا : ولا شياطين من الإنس .

قال القاضي أبن محمد : وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر ، و { يوحي } معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار ، و { زخرف القول } معناه محسنه ومزينه بالأباطيل ، قاله عكرمة ومجاهد ، و «الزخرفة » أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل ، و { غروراً } نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف ، والضمير في قوله { فعلوه } عائد على اعتقادهم العداوة ، ويحتمل على الوحي الذي تضمنته { يوحي } . وقوله { فذرهم وما يفترون } لفظ يتضمن الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال ، قال قتادة كل ( ذْر ) في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال و { يفترون } معناه يختلفون ويشتقون ، وهو من الفرقة تشبيهاً بفري الأديم .


[5064]:- كلمة (الذين) بالجمع صفة لكلمة (المتمردين) قبلها.
[5065]:- الحديث في ابن كثير برواية عبد الرزاق عن قتادة، ورواية الإمام أحمد عن عبيد ابن الحسيحاس، ورواية ابن جرير عن عوف بن مالك عن أبي ذر، وروي أيضا من طرق أخرى ذكرها في (الدر المنثور 3/39).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسلّيه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله، وحاثّا له على الصبر على ما نال فيه: {وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا} يقول: وكما ابتليناك يا محمد بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطين يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ ليصدّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسل، بأن جعلنا لهم أعداء من قومهم يؤذونهم بالجدال والخصومات، يقول: فهذا الذي امتحنتك به لم تخصص به من بينهم وحدك، بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم، فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم.

يقول: فاصبر أنت كما صبر أولو العزم من الرسل. وأما شياطين الإنس والجنّ فإنهم: مَرَدَتُهم...

وأما قوله:"يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا" فإنه يعني: أنه يُلقي الملقي منهم القول الذي زيّنه وحسنه بالباطل إلى صاحبه ليغترّ به من سمعه فيضل عن سبيل الله...

وبنحو الذي قلنا في ذلك، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذرّ، أنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال: فقال: «يا أبا ذَرّ، هَلْ صَلّيْتَ؟» قال: قلت: لا يا رسول الله قال: «قُمْ فارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» قال: ثم جئت فجلست إليه، فقال: «يا أبا ذَر هَلْ تَعَوّذْتَ بالله مِنْ شَرّ شَياطِين الإنْس والجِنّ؟» قال: قلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: نَعَمْ، شَرّ مِنْ شَياطِين الجِنّ... أما قوله:"زخْرفَ القَوْل غُرورا "فإنه: المزين بالباطل كما وصفت قبل، يقال منه: زخرف كلامه وشهادته إذا حسن ذلك بالباطل ووشّاه...

وأما الغرور: فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصده عن الصواب إلى الخطأ ومن الحقّ إلى الباطل...

"وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ" يقول تعالى ذكره: ولو شئت يا محمد أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداء من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم، فعلتُ ذلك ولكني لم أشأ ذلك لأبتلي بعضهم ببعض فيستحقّ كلّ فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق.

"فَذَرْهُمْ"، يقول: فدعهم، يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجنّ، "وَما يَفْتَرُونَ" يعني: وما يختلقون من إفك وزور. يقول له صلى الله عليه وسلم: اصْبر عَلَيْهِمْ فإنّي مِنْ وَرَاءِ عِقابِهِمْ على افْتِرَائِهِمْ على اللّهِ وَاخْتِلاقِهِمْ عَلَيْهِ الكَذِبَ والزّورَ.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كلمَّا كان المحلُّ أعلى كانت البلايا أوفى والمطالبات أقوى، فلمَّا كانت رتبُ الأنبياء -عليهم- السلام -أشرفَ، كانت العداوة معهم أشد وأصعب...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوّاً} وكما خلينا بينك وبين أعدائك، وكذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر، وكثرة الثواب والأجر...

{يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس. وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني، وشيطان الأنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً {زُخْرُفَ القول} ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه {غُرُوراً} خدعاً وأخذاً على غرّة {وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ما فعلوا ذلك، أي ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان مضمون ما تقدم إثبات عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، كان كأنه قيل تسلية له وتثبيتاً لفؤاده: فقد جعلناهم أعداء لك لأنك عالم، والجاهلون لأهل العلم أعداء {وكذلك} أي ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجن {جعلنا لكل نبي} أي ممن كان قبلك، وعبر عن الجمع بالمفرد -والمراد به الجنس- إشارة إلى أنهم يد واحدة في العداوة فقال: {عدواً} وبين أن المراد به الجنس، وأنهم أهل الشر فقال مبدلاً: {شياطين} أي أشرار {الإنس والجن} المتمردين منهم، وربما استعان شيطان الجن شيطان الإنس لقرب قلبه منه، أم يكون نوعه إليه أميل، وأشار إلى هوان أمرهم وسوء عاقبتهم بقوله: {يوحي بعضهم} أي الشياطين من النوعين {إلى بعض} أي يكلمه في خفاء {زخرف القول} أي مزينه ومنمقه.

ولما كان هذا يدل على أنه -لكونه لا حقيقة له- لولا الزخرفة ما قيل، زاده بياناً بقوله: {غروراً} أي لأجل أن يغروهم بذلك، أي يخدعوهم فيصيروا لقبولهم كلامهم كالغافلين الذين شأنهم عدم التحفظ، والغرور هو الذي يعتقد فيه النفع وليس بنافع.

ولما كان أول الآية معلماً أن هذا كان بمشيئة الله وجعله، أيد ذلك ومكنه في آخرها بأنه لو شاء ما كان، وكل ذلك غيرة على مقام الإلهية وتنزيهاً لصفة الربوبية أن يخرج شيء عنها فيدل على الوهن، ويجر قطعاً إلى اعتقاد العجز، فقال: {ولو شاء} ولما كان في بيان أعدائه صلى الله عليه وسلم والمسلطين عليه، أشار إلى أن ذلك لإكرامه وإعزازه، لا لهوانه، فقال {ربك} أي بما له إليك من حسن التربية وغزير الإحسان مع ما له من تمام العلم وشمول القدرة، أن لا يفعلوه {ما فعلوه} أي هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها.

ولما قرر أن هذا من باب التربية فعاقبته إلى خير، سبب عنه قطعاً قوله: {فذرهم} أي اتركهم على أيّ حالة اتفقت {وما يفترون} أي يتعمدون كذبه واختلاقه، واذكر ما لربك عليك من العاطفة لتعلم أن الذي سلطهم على هذا في غاية الرأفة بك والرحمة لك وحسن التربية كما لا يخفى عليك، فثق به واعلم أن له في هذا لطيف سريرة تدق عن الأفكار، بخلاف الآيات الآتية التي عبر فيها باسم الجلالة، فإنها في عظيم تجرئهم على مقام الإلهية.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

لما تضمن القول السابق أن أولئك المشركين المقترحين للآيات أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم وما اقترحوا إلا لاعتقادهم أنهم لا يؤتونه فيكون ذلك بابا للطعن في رسالته، أراد الله تعالى تسليته صلى الله عليه وسلم عن ذلك ببيان أن تلك سنته في جميع النبيين فقال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} أي وكما جعلنا هؤلاء ومن على شاكلتهم أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداءهم شياطين الإنس والجن. والعدو ضد الصديق والحبيب وهو يطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، قال تعالى في آية أخرى {فإنهم عدو لي} (الشعراء 77) ولذلك بين العدو هنا بأنهم شياطين الإنس والجن فشياطين بيان لعدو أو بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لكل نبي بعثه الله تعالى...

ومعنى هذا الجعل أن سنة الله تعالى في الخلق مضت بأن يكون الشرير المتمرد العاتي عن الحق والمعروف أي الذي لا ينقاد لهما كبرا وعنادا أو جمودا على ما تعود يكون عدوا للدعاة إليهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ورثتهم وناشري هدايتهم وهكذا شأن كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر مما يتعلق بمنافعهم الاجتماعية، فإن كان أحدهما خيرا محقا نسبت العداوة إلى الآخر الشرير المبطل لأنه هو الذي يسعى إلى إيذاء مخالفه بكل وسيلة يستطيعها لأنه مخالف وإن كان يعلم أنه يريد الخير له. وليس كل مخالف مبطل عدوا يسعى جهده لإيذاء مخالفة المحق وإنما يتصدى لذلك العتاة المستكبرون المحبون للشهرة والزعامة بالباطل والمترفون الذين يخافون على نعيمهم فلم يكن كل كافر بالأنبياء عليهم السلام ناصبا نفسه لعداوتهم وإيذائهم وصد الناس عنهم بل أولئك هم العتاة المتمردون من الرؤساء والمترفين والقساة الذين ضربت أنفسهم بالعدوان والبغي وأولئك هم الشياطين المفسدون في الأرض سواء كانوا من جنس الإنس الظاهر أو من جنس الجن الخفي.

وحكمة عداوة الأشرار للأخيار هي ما يعبر عنه في عرف علماء الاجتماع البشري بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تفضي بالجهاد والتمحيص إلى ما يسمونه (سنة الانتخاب الطبيعي) أي انتصار الحق وبقاء الأمثل التي ورد بها المثل في قوله تعالى من سورة الرعد {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد 17) فالحياة الدنيا جهاد لا يكمل ويثبت فيها إلا المجاهدون الصابرون وكذلك العمل فيها للآخرة {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب} (البقرة: 214) {والعاقبة للمتقين} (الأعراف: 128) ولكن أكثر الناس حتى من أهل الحق بَلْهَ غيرهم يجهلون هذه السنن الحكيمة العالية وإذا ذكرت لهم يشتبهون في تطبيقها على أنفسهم وعلى غيرهم كما اشتبه كثير من المسلمين في سبب خذلان دولهم وسقوط حكوماتهم ظانين أن مجرد تسميتها مسلمة كاف لنصر الله إياها وإن خالفت هداية دينه بالظلم والفسق والكفر في زعمائها وإقرارهم عليه من دهمائها وخالفت سننه في تنازع البقاء وتوقفه على كمال الاستعداد كما قال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال 60) وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الأنفال 46) ولم يقيموا شيئا من هذه الأوامر والنواهي بل فعلوا ضدها، وقد سبق لنا تحقيق هذه المباحث في التفسير وغير التفسير من أبواب المنار.

ثم بين تعالى شر ضروب عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء وهو مقاومة هدايتهم بقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المموه بما يظنون أنه يستر قبحه ويخفي باطله بطرق خفية دقيقة لا يفطن لباطلها كل أحد ليغروهم به. فالإيحاء: الإعلام بالأشياء من طريق خفي دقيق سريع كالإيماء، وتقدم. والزخرف: الزينة كالأزهار للأرض والذهب للنساء والتخييل الشعري في الكلام وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام. والغرور: ضرب من الخداع بالباطل مأخوذ من الغرة (بالكسر) والغرارة (بالفتح) وهما بمعنى الغفلة والبلاهة وعدم التجارب...

والمثال الأول من هذا الغرور هو ما أوحاه الشيطان الأول للإنسان الأول أبينا آدم ولزوجه وهو تزيينه لهما الأكل من الشجرة التي اختبرهما الله تعالى بالنهي عن قربها إذ قال لهما {إنها شجرة الخلد وملك لا يبلى} {وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} (الأعراف 21} ومنه ما يوسوس به شياطين الإنس والجن لمن يزينون لهم المعاصي بما فيها من اللذة والانطلاق من القيود المانعة من الحرية وإطماع المؤمن منهم بأماني الرحمة والمغفرة والكفارات والشفاعة...

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي ولو شاء ربك أيها الرسول أن لا يفعلوا هذا الإيحاء الغار ما فعلوه ولكنه لم يشأ خلقهم، أو يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم بل شاء أن يكون كل من الإنس والجن مستعدين للحق والباطل والخير والشر، وأن يكونوا مختارين في سلوك كل من الطريقين، كما قال في الإنسان {وهديناه النجدين} (البلد 10} ومن وسوسة هؤلاء الشياطين للناس وزخرفها تحريف مثل هذه الآية الحكيمة بحملها على معنى الجبر فيقولون: إن كل عاص لله معذور لأنه ما عصاه إلا بمشيئته التي لا يستطيع الخروج عنها. وسيأتي في هذه السورة قوله تعالى في ذلك {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {الأنعام 148} فلا عذر بمشيئة الله لأحد لأنه لم يشأ أن تكون أفعالهم اضطرارية بل خلقهم بمشيئته يفعلون ما يفعلون باختيارهم ويحتجون على المنكرين عليهم كثيرا بأنهم على حق، وإذا اعترفوا بخطأ يلتمسون لأنفسهم فيه العذر.

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} من كذب، ويخلقون من إفك، ليصرفوا الناس عن الحق، واستقم كما أمرت فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء والعاقبة للمتقين، وسنريك سنتنا في أمثالهم بعد حين، وقد فعل عز وجل فأهلك المستهزئين بالقرآن الذين قيل إن السياق نزل فيهم، ونصر الله عبده وأعز جنده، وهكذا ينصر من ينصره، وأما المتنازعون على الباطل ومجد الدنيا الزائل، فإنما يكون الفلج بينهم بحسب سنن الله تعالى لأشدهم مراعاة لها في الاستعداد الحربي الاجتماعي وتخلقا بالأخلاق العالية كالصبر والثبات كما بيناه مرارا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض؛ بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه...

وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان...

فأما شياطين الجن -والجن كله- فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو... ولقد كان الله -سبحانه- قادراً -لو شاء- ألا يفعلوا شيئاً من هذا.. ألا يتمردوا؛ وألا يتمحضوا للشر؛ وألا يعادوا الأنبياء؛ وألا يؤذوا المؤمنين؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله.. كان الله سبحانه قادراً أن يقهرهم قهراً على الهدى؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به.. ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله -بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله: (ولو شاء الله ما فعلوه)...

.

فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟ يخلص لنا ابتداء: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء.. هم "شياطين "!. شياطين من الإنس ومن الجن.. وأنهم يؤدون جميعاً -شياطين الإنس والجن- وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله.. ويخلص لنا ثانياً: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده0من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله. وآب أعداء الله بالضعف والخذلان؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم: (ولو شاء الله ما فعلوه).. ويخلص لنا ثالثا: أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا -فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان -فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضراء سواء. وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان! ويخلص لنا رابعاً: هو أن الشياطين من الإنس والجن، وهو أن كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم.. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم: (فذرهم وما يفترون).. دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم...

.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإن هؤلاء المعاندين قد نصبوا أنفسهم لعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومة دعوته وهم أشباههم من أعداء النبيين الذين قاوموا الدعوة ولذا قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدو شياطين الإنس والجن.)

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصابر المشركين ويتحمل أذاهم هو وأصحابه ويتحمل معاندتهم له، لا يرضون القرآن دليلا على نبوته، وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله أو بعضه واقروا صاغرين بعجزهم ولكن لم يمتنعوا هم عن معاداته بالباطل متخذين كل ذريعة سبيلا لباطلهم.

والله تعالى يثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كان للنبيين من قبله وكان مألوفا وهو سنة الله تعالى في رسالاته فقال تعالى: (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا) أي كذلك الذي تراه من عداوة نفر من المشركين ولجاجتهم في العداوة حتى لا يتركوا بابا من أبواب الكيد إلا سلكوه ولا مسلكا من مسالك الإعنات الا اتخذوه كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الإنسان والجن، وشياطين الإنس هم أولئك الذين ناصبوك العداوة وشياطين الجن هم أعوان إبليس الذين يوسوسون ويأمرون بالسوء والفحشاء ويسولون كل قبيح ويزينونه، ويسمونه بغير اسمه فهؤلاء يدفعون النفس الأمارة بالسوء وأولئك يستجيبون لهم، ويفترون بوسوستهم ولذلك قال تعالى: (يوحي) الوحي: الخطاب الخفي أو التوجيه الخفي كما قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون 68) (النحل).

فالوحي هنا هو التوجيه الخفي الذي يوسوس في الناس فيلقي في نفوسهم بتغريرهم بزخرف القول؛ فيوهم بأن الكفر إكرام للآباء وأن تقليدهم تعصب لهم، وأن الانطلاق من كل القيود الخلقية مروءة، وأن المعاندة هداية، وأن إهمال حكم العقل هو الاتباع وهذا معنى قوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) أي يلقي في نفوسهم تحسين الباطل بأقوال باطلة، ولكنها مزخرفة بزخرف يكون غرورا للنفس الضالة فتتدلى به.

وهكذا يجيء تضليل النفوس في الآحاد والجماعات بزخرف القول فتسمى الحقائق بغير أسمائها؛ فيسمى الجحود طلبا للدليل، وتسمى الشجاعة في الحق تهورا، ويسمى الإفساد حرية، ويسمى الاستبداد شورى والشورى طغيانا، ولذلك كان بعض الحكماء يرى أن إصلاح الأخلاق يكون أولا بتصحيح الألفاظ. وإن هذه العداوة للأنبياء من شياطين الإنس والجن بإرادة الله تعالى ولذا قال: (ولو شاء ربك ما فعلوه).

أي إن هذه إرادة الله تعالى اختيارا وليبلغ النبيون أعلى مراتب الإنسانية بجهادهم في الدعوة إلى الله وقوله تعالى (ولو شاء ربك ما فعلوه) معناه لو أراد الله تعالى ما فعلوه أي شياطين الإنس والجن ولكنهم فعلوه ليكون التنازع بين الخير والشر ولأن الله تعالى مكن لإبليس الذي قال: (لأغوينهم أجمعين82 الا عبادك منهم المخلصين 83) (ص) ولو أراد الله ما تمكن ولو شاء الله تعالى ما خلقه.

وإذا كان ذلك أمرا ثابتا بالنسبة للنبيين أجمعين فتقبلْه وأعرض عنهم ولا تأس على القوم الفاسقين ولذلك قال تعالى: (فذرهم وما يفترون) أي فاتركهم واكاذيبهم من إنكارهم حجية القرآن ودلالته على النبوة وافتراءهم على أنفسهم بحلفهم أنهم يؤمنون لو جاءتهم وافتراءهم عليك من أنك تعيب أحلامهم وتسفه آباءهم وأنت تنطق بالحق وترشدهم وتهديهم سواء السبيل...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإِكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: (ولو شاء ربّك ما فعلوه). بيد أنّ الله لم يشأ ذلك، لأنّه أراد أن يكون الناس أحراراً، وليكون هناك مجال لاختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، إِنّ سلب الحرية والإِكراه لا يأتلف مع هذه الأغراض، ثمّ إنّ وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين، شيئاً، بل يؤدي بشكل غير مباشر إِلى تكامل الجماعة المؤمنة، لأنّ التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإِرادة. لذلك يأمر الله نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إِلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية: (فذرهم وما يفترون)...