التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( 112 ) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالأخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } .

الكاف في اسم الإشارة ، في محل نصب نعت لمصدر مؤكد لما بعده . أي مثل ذلك الجعل جعلنا لك أعداء . شياطين ، منصوب على البدل من قوله : { عدوا } وقيل : منصوب على أنه مفعول ثان للفعل جعلنا . وغرورا منصوب على المصدر في موضع الحال . وقيل : منصوب على البدل من قوله : { زخرف } وقيل : منصوب ، لأنه مفعول لأجله . أي لغروره{[1249]} . هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش وما افتروه من الأقاويل والأباطيل وما كادوه للإسلام ونبيه .

قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن } وشياطين الإنس والجن ، هم العتاة المردة من النوعين . وهم الذين يحفزون الناس ليجنحوا عن صراط الله ، ويسولون لهم الجحود والعصيان والتمرد على الله بكل صور العصيان والتمرد . لا جرم أن شياطين الإنسان والجن خلف كل الخطايا التي يقرفها بنو البشر في هذه الأرض . وهم وراء كل ظواهر الكفر أو الفسق أو الإلحاد الذي سقط فيه الأشقياء والتعساء من بني آدم . أما شياطين الجن فهم صنف من الخليقة غير منظورة ولا محسة ، ترى من حولها من حيث لا يراها الناس . وليس لها من وظيفة ولا شاغل إلا إفساد الإنسان بكل ظواهر الإيحاء من إغراء وإغواء ، أو ترغيب وترهيب . وغير ذلك من الأساليب النفسية والباطنية التي يتدسس من خلالها الشيطان العاتي إلى العميق من دخائل الإنسان لينفره من فعل الخيرات ، ويسول له فعل المعاصي والمنكرات ، فضلا عن تحريضه على السقوط في جحيم الباطل بكل ضروبه من كفر وإلحاد وإيذاء للمسلمين وكيد للإسلام .

أما شياطين البشر فهم صنف آخر من الجنس المنظور من ذرية آدم . وهؤلاء مغايرون لشياطين الجن ، في أمر أساسي واحد . وهو أن الأولين مخلوقون أشقياء في الأصل . فهم قد فطروا على الكفر والتمرد والرغبة اللحاحة في الإفساد منذ جيئتهم إلى هذه الدنيا . لكن الآخرين – وهم شياطين البشر- لم يخلقوا كافرين ولا عتاة فاسقين ، لكنهم قد خالطهم الفساد بعد حين من البراءة التي جبلوا عليها وهم صغار . فما لبثوا بعد ذلك أن أشربت أذهانهم وقلوبهم وطبائعهم الكفر والفساد . وذلك لما لامست عقولهم ونفوسهم أساليب الشياطين الشريرة بمختلف الوسائل التربوية والفكرية والثقافية فانقلبوا مردة شياطين كإخوانهم من شياطين الجن أو أعتى وأشد . وفي هذا روى عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس . فقال : " يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن " قلت : يا رسول الله ! وهل للإنس من شياطين ؟ قال : " نعم شر من شياطين الجن " .

قوله : { يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } الجملة في محل نصب حال من شياطين . أو صفة لعدو ؟ وقيل : الكلام مستأنف سيق لبيان عداوة الكافرين من شياطين الإنس والجن . ويوحي ، من الوحي وهو الإشارة السريعة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي{[1250]} وسمي وحيا لحصوله خفية . والمراد بقوله { يوحى } يلقي أو يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس . وقيل كذلك يوسوس بعض كل فريق من الفريقين للآخر . وقيل أيضا : إن مع كل جني شيطانا ، ومع كل إنسي شيطانا فيوحي الشيطان لصاحبه بزخرف القول . ويدل على ذلك من السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " .

أما زخرف القول ، فهو الكلام المزين المحسن خداعا . والزخرف معناه الزينة والتمويه . والغرور ، ما غر الإنسان وخدعه فصده عن الحق إلى الباطل . والمقصود أن شياطين الجن يغرون ويوسوسون لشياطين الإنسان بالمزين من الكلام اللامع المخادع ليغروهم فيجانبوا الحق مجانبة وليسدروا في الأرض عتاة مفسدين ، يحرضون الناس على المعاصي وفعل المنكرات ويخوفوهم من الإذعان لأوامر الله والامتثال لدينه وشرعه . ومثلما يوحي شياطين الجن إلى البشر فإنه لا يفوتنا أن نؤكد على أن شياطين البشر أشد إيحاء وإغراء وتمويها ، وأقدر على إفساد الإنسان وإغوائه وإغراقه في الموبقات والآثام ، بل أجدر أن يحاذرهم المؤمنون ويحرصوا على اجتنابهم والتعوذ بالله منهم ومن كيدهم ومكرهم وتمالئهم على الإسلام والمسلمين في كل الأحوال ، بل في كل زمان ومكان .

ولَعمرُ الحق ما فسد المسلمون ولا انثنوا عن دينهم الإسلام ولا غاروا في الهوان والضياع والذلة ، ولا ارتكسوا في المفاسد والفواحش وأوضار المحرمات والمحظورات ، إلا بالجهود الهائلة الكثاف التي بذلها شياطين الإنسان وما فتئوا يبذلونها لتحطيم العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين ولتشويه الصورة عن حقيقة الإسلام فكرا وفقها وأخلاقا ومنهاجا ونظاما للحياة .

أجل ! ما ضل المسلمون ولا وهنوا ولا مالوا عن دينهم وارتاب كثير منهم في صلاح الإسلام للحياة البشرية إلا بفعل الأفاعيل المذهلة التي خطط لها الشياطين الإنسيون العتاة من دهاقنة الإفساد والتدمير والتشويه والتشكيك ، من استعماريين وصليبيين وشيوعيين وصهيونيين وغيرهم من الناعقين الأتباع المتواطئين من أبناء المسلمين .

قوله : { ولو شاء ربك ما فعلوه } الضمير في { فعلوه } عائد إلى عداوة الشياطين وإيحاءاتهم الخبيثة بزخرف القول . وتأويل الآية أن الله قادر على هداية الناس ليكونوا جميعا مؤمنين . ولو شاء أن يجعلهم مؤمنين لفعل ، لكنه ابتلى بعض الناس لينال كل فريق منهم جزاءه الذي يستحقه مما هو مسطور في الكتاب الرباني أن يفنى هذا الزمان .

قوله : { فذرهم وما يفترون } أي دع هؤلاء الشياطين من البشر الذين يجادلونك بالباطل ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن . دعهم { وما يفترون } أي وما يختلقون من الزور والأباطيل . وذلك هو شأن المسلمين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام ويبلغون الناس دعوة الحق . فإنه خليق بهم أن يبينوا للناس كلمة الإسلام بالتي هي أحسن وفي أسلوب علمي كريم ومحبوب كيما يطلع الناس على روعة الإسلام ، وأن هذا الدين لهو الأمثل الذي يصلح عليه حال البشرية في هذه الدنيا . ولا مناص بعد ذلك من الاصطراع مع فريق الباطل وهم شياطين البشر الذين يكذبون على الله وأنبيائه ورسله ويزيفون الحق والتاريخ ويثيرون الشبهات والافتراءات من حول الإسلام !

وما على الداعين إلى دين الإسلام في مثل هذه الحال إلا أن يصطبروا ويحتملوا الأذى وقول الزور والإرجاف ، وأن يتركوا الشياطين وما يكيدون ويأتفكون إلى أن يحكم الله بالحق وهو خير الحاكمين .


[1249]:- البيان لابن الأنباري ج 1 ص 335.
[1250]:- القاموس المحيط ج 4 ص 401.