البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

الزخرف الزينة ، قاله الزجاج .

وقال أبو عبيدة : كل ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف انتهى .

والزخرف الذهب .

{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } المعنى مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجن أي متمردي الصنفين { يوحى } يلقي في خفية بعضهم إلى بعض ، أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي ، أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول ، أي محسنه ومزينه ، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وأنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك ، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء .

وعدو كما قلنا قبل في معنى أعداء .

وقال تعالى : { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } وقال الشاعر :

إذ أنا لم أنفع صديقي بودّه *** فإن عدوّي لن يضرهم بغضي

وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم { وجعلوا لله شركاء الجن } وجوّزوا في شياطين البدلية من عدواً ، كما جوّزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناه عليهم .

والظاهر أن قوله { شياطين الإنس والجن } هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، والشيطان هو المتمرّد من الصنفين كما شرحناه .

وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن ، وكذا فهم أبو ذر من قول الرسول له : « هل تعوّذت من شياطين الجن والإنس » قلت : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين ؟ قال : « نعم وهم شر من شياطين الجن » .

وقال مالك بن دينار شيطان الإنس عليّ أشد من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس بجيئني ويجرني إلى المعاصي عياناً .

وقال عطاء : أما أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من شياطين الإنس : فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل بن هشام والعاصي بن عمرو ، وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وعتبة بن أبي معيط والوليد بن عتبة وأبيّ وأمية ابنا خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وعتبة بن عبد العزى ، ومعتب بن عبد العزى .

وفي الحديث : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : «ولا أنا إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " .

وقيل : الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن ، أي متمردين مغوين لهم .

وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا : ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه ، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء ، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه ، وهم شياطين الإنس والظاهر في جعلنا أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء والعداوة للأنبياء معصية وكفر ، فاقتضى أنه خالق ذلك وتأول المعتزلة هذا الظاهر .

فقال الزمخشري وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم يمنعهم من العداوة انتهى .

وهذا قول الكعبي قال : خلي بينه وبينه .

وقال الجبائي : الجعل هنا الحكم والبيان يقال كفره حكم بكفره وعدله أخبر عن عدالته .

ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم قال جعلهم أعداء لهم .

وقال أبو بكر الأصم لما أرسله الله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الجسد مبيناً للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال جعلهم له أعداء كما قال الشاعر :

فأنت صيرتهم لي حسداً *** وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ، وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوّزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغرّ بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين .

{ ولو شاء ربك ما فعلوه } أي ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف ، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها .

{ فذرهم وما يفترون } أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك ويتضمن الوعيد والتهديد .

قال ابن عباس يريد ما زين لهم إبليس وما غرّهم به انتهى .

وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال .

وقال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية .