قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } . ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء من جنس آخر ، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب ، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم ، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وما ترى فيها من الأشجار ، والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات .
قوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار } . أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده ، نظيره قوله تعالى : ( هو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) قال عطاء : أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان . والليل جمع ليلة ، والليالي جمع الجمع . والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) .
قوله تعالى : { والفلك التي تجري في البحر ) . يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر . قال الله تعالى : في الواحد والتذكير ( إذ أبق إلى الفلك المشحون ) وقال في الجمع والتأنيث ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) . ( والفلك التي تجري في البحر ) الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء .
قوله تعالى : { بما ينفع الناس } . يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب .
قوله تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء } . يعني المطر ، قيل : أراد بالسماء السحاب ، يخلق الله الماء في السحاب ثم من السحاب ينزل ، وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض .
قوله تعالى : { فأحيا به } . أي الماء .
قوله تعالى : { الأرض بعد موتها } . أي بعد يبوستها وجدوبتها .
قوله تعالى : { وبث فيها } . أي فرق فيها .
قوله تعالى : { من كل دابة وتصريف الرياح } . قرأ حمزة والكسائي الريح بغير ألف . وقرأ الباقون بالألف ، وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات الريح العقيم اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها ، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع ، والقراء مختلفون فيها ، والريح يذكر ويؤنث ، وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء . وقيل : تصريفها أنها تارة تكون ليناً ، وتارة تكون عاصفاً ، وتارة تكون حارة ، وتارة تكون باردة . قال ابن عباس : أعظم جنود الله الريح والماء ، وسميت الريح أريحاً لأنها تريح النفوس . قال شريح القاضي : ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم ، ولسقم صحيح ، والبشارة في ثلاث من الرياح ، في الصبا والشمال والجنوب ، أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها ، وقيل الرياح ثمانية : أربعة للرحمة وأربعة للعذاب . فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات . وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر .
قوله تعالى : { والسحاب المسخر } . أي الغيم المذلل ، سمي سحاباً لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر .
قوله تعالى : { بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } . فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً . قال وهب بن منبه : ثلاثة لا يدرى من أين تجيء : الرعد والبرق والسحاب .
ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة ، آيات أي : أدلة على وحدانية الباري وإلهيته ، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ، ولكنها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل ، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره ، ففي { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها ، وإحكامها ، وإتقانها ، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر ، والنجوم ، وتنظيمها لمصالح العباد .
وفي خلق { الْأَرْضِ } مهادا للخلق ، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها ، والاعتبار . ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير ، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها ، وحكمته التي بها أتقنها ، وأحسنها ونظمها ، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع ، من منافع الخلق ومصالحهم ، وضروراتهم وحاجاتهم . وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله ، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة ، لانفراده بالخلق والتدبير ، والقيام بشئون عباده { و } في { اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام ، إذا ذهب أحدهما ، خلفه الآخر ، وفي اختلافهما في الحر ، والبرد ، والتوسط ، وفي الطول ، والقصر ، والتوسط ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول ، التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم ، وجميع ما على وجه الأرض ، من أشجار ونوابت ، كل ذلك بانتظام وتدبير ، وتسخير ، تنبهر له العقول ، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول ، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها ، وعلمه وحكمته ، ورحمته الواسعة ، ولطفه الشامل ، وتصريفه وتدبيره ، الذي تفرد به ، وعظمته ، وعظمة ملكه وسلطانه ، مما يوجب أن يؤله ويعبد ، ويفرد بالمحبة والتعظيم ، والخوف والرجاء ، وبذل الجهد في محابه ومراضيه .
{ و } في { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها ، مما ألهم الله عباده صنعتها ، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها .
ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح ، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال ، والبضائع التي هي من منافع الناس ، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم .
فمن الذي ألهمهم صنعتها ، وأقدرهم عليها ، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها ؟ أم من الذي سخر لها البحر ، تجري فيه بإذنه وتسخيره ، والرياح ؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية ، النار والمعادن المعينة على حملها ، وحمل ما فيها من الأموال ؟ فهل هذه الأمور ، حصلت اتفاقا ، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز ، الذي خرج من بطن أمه ، لا علم له ولا قدرة ، ثم خلق له ربه القدرة ، وعلمه ما يشاء تعليمه ، أم المسخر لذلك رب واحد ، حكيم عليم ، لا يعجزه شيء ، ولا يمتنع عليه شيء ؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته ، واستكانت لعظمته ، وخضعت لجبروته .
وغاية العبد الضعيف ، أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب ، التي بها وجدت هذه الأمور العظام ، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه ، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له ، والخوف والرجاء ، وجميع الطاعة ، والذل والتعظيم .
{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب .
{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات ، وأصناف النبات ، ما هو من ضرورات الخلائق ، التي لا يعيشون بدونها .
أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله ، وأخرج به ما أخرج ورحمته ، ولطفه بعباده ، وقيامه بمصالحهم ، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه ؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم ؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم ؟ { وَبَثَّ فِيهَا } أي : في الأرض { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي : نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ، ما هو دليل على قدرته وعظمته ، ووحدانيته وسلطانه العظيم ، وسخرها للناس ، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع .
فمنها : ما يأكلون من لحمه ، ويشربون من دره ، ومنها : ما يركبون ، ومنها : ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ، ومنها : ما يعتبر به ، ومع{[117]} أنه بث فيها من كل دابة ، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم ، المتكفل بأقواتهم ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها .
وفي { تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } باردة وحارة ، وجنوبا وشمالا ، وشرقا ودبورا وبين ذلك ، وتارة تثير السحاب ، وتارة تؤلف بينه ، وتارة تلقحه ، وتارة تدره ، وتارة تمزقه وتزيل ضرره ، وتارة تكون رحمة ، وتارة ترسل بالعذاب .
فمن الذي صرفها هذا التصريف ، وأودع فيها من منافع العباد ، ما لا يستغنون عنه ؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات ، وتصلح الأبدان والأشجار ، والحبوب والنوابت ، إلا العزيز الحكيم الرحيم ، اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع ، ومحبة وإنابة وعبادة ؟ .
وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير ، فيسوقه الله إلى حيث شاء ، فيحيي به البلاد والعباد ، ويروي التلول والوهاد ، وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه ، فإذا كان يضرهم كثرته ، أمسكه عنهم ، فينزله رحمة ولطفا ، ويصرفه عناية وعطفا ، فما أعظم سلطانه ، وأغزر إحسانه ، وألطف امتنانه "
أليس من القبيح بالعباد ، أن يتمتعوا برزقه ، ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه ؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره ، وعفوه وصفحه ، وعميم لطفه ؟
فله الحمد أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا .
والحاصل ، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات ، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات ، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة ، علم بذلك ، أنها خلقت للحق وبالحق ، وأنها صحائف آيات ، وكتب دلالات ، على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته ، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر ، وأنها مسخرات ، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها .
فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون ، وإليه صامدون ، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال بعضهم : أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان ، وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ فتلا ذلك على أصحابه ، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان ، قال المشركون : وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك ، ونحن ننكر ذلك ، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة ؟ فأنزل الله عند ذلك : إنّ في خَلْق السّمَوات وَالأرْض احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة : وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ إلى قوله : لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( آيةً ) ، فأنزل الله هذه الآية يعلمهم فيها أن لهم في خلق السمَوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك آية بينة على وحدانية الله ، وأنه لا شريك له في ملكه لمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، قال : لما نزلت : وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله تعالى ذكره : إن في خَلْقِ السّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ والنّهَارِ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ، قال : لما نزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيم قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله تعالى ذكره إن في خَلْق السّمَوَات والأَرْض وَاخْتِلاف اللّيْلِ وَالنّهار . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ، قال : لما نزلت هذه الآية جعل المشركون يعجبون ويقولون : تقول إلهكم إله واحد ، فلتأتنا بآية إن كنت من الصادقين فأنزل الله : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ . . . الآية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح : أن المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أرنا آية فنزلت هذه الآية : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : سألت قريش اليهود ، فقالوا : حدثونا عما جاءكم به موسى من الاَيات فحدثوهم بالعصا وبيده البيضاء للناظرين ، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الاَيات ، فأخبروهم أنه كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله . فقالت قريش عند ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنزداد يقينا ، ونتقوّى به على عدوّنا فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه ، فأوحى إليه : إني معطيهم ، فأجعل لهم الصفا ذهبا ، ولكن إن كذبوا عذّبتهم عذابا لم أعذبه أحدا من العالمين . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ذَرْنِي وَقَوْمِي فَأدْعُوَهُمْ يَوْما بِيَوْم » فأنزل الله عليه : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ الآية ، إن في ذلك لاَية لهم ، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ، فخلق الله السمَوات والأرض واختلاف الليل والنّهار أعظم من أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : غيّر لنا الصفا ذهبا إن كنت صادقا أنه منه فقال الله : إن في هذه الاَيات لاَيات لقوم يعقلون . وقال : قد سأل الاَيات قوم قبلكم ، ثم أصبحوا بها كافرين .
والصواب من القول في ذلك ، أن الله تعالى ذكره نبه عباده على الدلالة على وحدانيته وتفرّده بالألوهية دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية . وجائز أن تكون نزلت فيما قاله عطاء ، وجائز أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى ، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذر فيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقين بصحة قول على الاَخر . وأيّ القولين كان صحيحا فالمراد من الآية ما قلت .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ إن في إنشاء السمَوات والأرض وابتداعهما . ومعنى خلق الله الأشياء : ابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لم تكن موجودة .
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل «الأرض » ولم تجمع كما جمعت السموات ، فأغنى ذلك عن إعادته .
فإن قال لنا قائل : وهل للسموات والأرض خلق هو غيرها فيقال : إن في خلق السموات والأرض ؟ قيل : قد اختلف في ذلك ، فقال بعض الناس : لها خلق هو غيرها ، واعتلوا في ذلك بهذه الآية ، وبالتي في سورة الكهف : مَا أشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أنْفُسِهِمْ وقالوا : لم يخلق الله شيئا إلا والله له مريد . قالوا : فالأشياء كانت بإرادة الله ، والإردة خلقٌ لها .
وقال آخرون : خلق الشيء صفة له ، لا هي هو ولا غيره . قالوا : لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفا . قالوا : ولو جاز أن يكون خلقه غيره وأن يكون موصوفا لوجب أن تكون له صفة هي له خلق ، ولو وجب ذلك كذلك لم يكن لذلك نهاية . قالوا : فكان معلوما بذلك أنه صفة للشيء . قالوا : فخلق السمَوات والأرض صفة لهما على ما وصفنا . واعتلوا أيضا بأن للشيء خلقا ليس هو به من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأوّلون .
وقال آخرون : خلق السمَوات والأرض وخلق كل مخلوق ، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره .
فمعنى قوله : إنّ فِي خَلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ : إن في السموات والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس . وإنما الاختلاف في هذا الموضع الافتعال من خُلوف كل واحد منهما الاَخر ، كما قال تعالى ذكره : وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا بمعنى : أن كل واحد منهما يخلف مكان صاحبه ، إذا ذهب الليل جاء النهار بعده ، وإذا ذهب النهار جاء الليل خلفه ومن ذلك قيل : خلف فلان فلانا في أهله بسوء ، ومنه قول زهير :
بها العِينُ والاَرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَة ًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثِم
وأما الليل فإنه جمع ليلة ، نظير التمر الذي هو جمع تمرة ، وقد يجمع ليال فيزيدون في جمعها ما لم يكن في واحدتها . وزيادتهم الياء في ذلك نظير زيادتهم إياها في رباعية وثمانية وكراهية . وأما النهار فإن العرب لا تكاد تجمعه لأنه بمنزلة الضوء ، وقد سمع في جمعه «النّهُر » قال الشاعر :
لَوْلا الثّريدَان هَلَكْنا بالضّمُرْ ثَريدُ لَيْلٍ وَثَريدٌ بالنّهُرْ
ولو قيل في جمع قليله أنهرة كان قياسا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ .
يعني تعالى ذكره : إن في الفلك التي تجري في البحر . والفلك هو السفن ، واحده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث ، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى : وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُون فذكره ، وقد قال في هذه الآية : وَالفُلْكِ الّتي تَجْرِي فِي البَحْرِ وهي مُجراة ، لأنها إذا أجريت فهي الجارية ، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها .
وأما قوله : بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ فإن معناه : ينفع الناس في البحر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما أنْزَلَ الّلهُ مِنَ السماءِ مِنْ ماءٍ فأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ وفيما أنزله الله من السماء من ماء ، وهو المطر الذي ينزله الله من السماء .
وقوله : فَأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعَدْ مَوْتِها وإحياؤها : عمارتها وإخراج نباتها ، والهاء التي في «به » عائدة على الماء والهاء والألف في قوله : بَعْدَ مَوْتها على الأرض ، وموت الأرض : خرابها ودثور عمارتها ، وانقطاع نباتها الذي هو للعباد أقوات وللأنام أرزاق .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دابّة .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دابّةٍ وإن فيما بثّ في الأرض من دابة . ومعنى قوله : وبَثّ فِيها وفرّق فيها ، من قول القائل : بثّ الأمير سراياه : يعني فرّق . والهاء والألف في قوله : «فِيها » عائدتان على الأرض . والدابة الفاعلة من قول القائل دبت الدابة تدبّ دبيبا فهي دابة ، والدابة اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه لدبيبه على الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصرِيف الرّياحِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَتَصْرِيفُ الرّياحِ وفي تصريفه الرياح ، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول ، كما قال : يعجبني إكرام أخيك ، يريد إكرامك أخاك وتصريف الله إياها : أن يرسلها مرة لواقح ، ومرة يجعلها عقيما ، ويبعثها عذابا تدمر كل شيء بأمر ربها . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَتَصْريف الرّياحِ والسحاب المُسَخّرِ قال : قادر والله ربنا على ذلك ، إذا شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح ، إنما هي عذاب على من أرسلت عليه .
وزعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : وَتَصْرِيفِ الرّياحِ أنها تأتي مرّة جنوبا وشمالاً وقَبُولاً ودَبُورا ثم قال : وذلك تصريفها . وهذه الصفة التي وصف الرياح بها صفة تصرّفها لا صفة تصريفها ، لأن تصريفها تصريف الله لها ، وتصرّفها اختلاف هبوبها . وقد يجوز أن يكون معنى قوله : وَتَصَرْيفِ الرّياحِ تصريف الله تعالى ذكره هبوب الرياح باختلاف مهابّها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالسّحابِ المُسّخّرِ وَبَيْنَ السّماءِ والأْرضِ لاَِيات لِقَوْمٍ يْعَقِلُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله وَالسّحابِ المُسّخّرِ وفي السحاب جمع سحابة ، يدل على ذلك قوله تعالى ذكره : وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ فوحد المسخر وذكّره ، كما قال : هذه تمرة وهذا تمر كثير في جمعه ، وهذه نخلة وهذا نخل . وإنما قيل للسحاب سحاب إن شاء الله لجرّ بعضه بعضا وسحبه إياه ، من قول القائل : مرّ فلان يجرّ ذيله : يعني يسحبه . فأما معنى قوله : لاَياتٍ فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لمن عقل مواضع الحجج وفهم عن الله أدلته على وحدانيته .
فأعلم تعالى ذكره عباده بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرا لذوي العقول والتمييز دون غيرهم من الخلق ، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي ، والمكلفين بالطاعة والعبادة ، ولهم الثواب وعليهم العقاب .
فإن قال قائل : وكيف احتجّ على أهل الكفر بقوله : إنّ فِي خَلْق السّمَوَات والأرْضِ وَاخْتِلاف اللّيْلِ وَالنّهاِر الآية في توحيد الله ، وقد علمت أن أصنافا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة ؟ .
قيل : إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية دليلاً على خالقه وصانعه ، وأن له مدبرا لا يشبهه ( شيء ) ، وبارئا لا مثل له . وذلك وإن كان كذلك ، فإن الله إنما حاجّ بذلك قوما كانوا مقرّين بأن الله خالقهم ، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان فحاجّهم تعالى ذكره فقال إذ أنكروا قوله : وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ وزعموا أن له شركاء من الاَلهة : إن إلهكم الذي خلق السموات ، وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما ، وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ، وذلك هو معنى قوله : وَالفُلْكِ الّتِي تَجْرِي في البَحْر بمَا يَنْفَعُ النّاسَ وأنزل إليكم الغيث من السماء ، فأخصب به جَنَابكم بعد جدوبه ، وأمرعه بعد دثوره ، فنَعَشكم به بعد قنوطكم ، وذلك هو معنى قوله : وَما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها . وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل ، ومنها جمال ومراكب ، ومنها أثاث وملابس ، وذلك هو معنى قوله : وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دابّةٍ . وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم ، وسير لكم السحاب الذي بوَدْقه حياتكم وحياة نَعَمكم ومواشيكم وذلك هو معنى قوله : وَتَصْرِيفِ الرّياحِ وَالسّحابِ المُسَخّر بَيْنَ السّماءِ والأرْضِ .
فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم ، وتفرّد لهم بها . ثم قال : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ فتشركوه في عبادتكم إياي ، وتجعلوه لي ندّا وعِدلاً ؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء ، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي وتفرّدت لكم بأياديّ دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل والجور والإنصاف ، وذلك أني لكم بالإحسان إليكم متفرّد دون غيري ، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادا . فهذا هو معنى الآية .
والذين ذُكّروا بهذه الآية واحتجّ عليهم بها هم القوم الذين وصفت صفتهم دون المعطلة والدهرية ، وإن كان في أصغر ما عدّ الله في هذه الآية من الحجج البالغة ، المُقْنَعُ لجميع الأنام ، تركنا البيان عنه كراهة إطالة الكتاب بذكره .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )
ومعنى { في خلق السموات } في اختراعها وإنشائها ، وقيل : المعنى أن في خلقه أي هيئة السموات والأرض( {[1487]} ) ، و { اختلاف الليل والنهار } معناه أن هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما خلفة ، كما قال تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة }( {[1488]} ) [ الفرقان : 62 ] ، وكما قال زهير : [ الطويل ]
بها العِينُ والأَرْآمُ يمسين خِلْفَةً . . . وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ( {[1489]} )
وَلَهَا بالماطرونِ إذَا . . . أكلَ النَّمْلُ الذي جمعا
خِلْفةٌ حتَّى إذا ارتَبَعَتْ . . . سَكَنَتْ من جِلِّقِ بِيَعا( {[1490]} )
ويحتمل أيضاً الاختلاف في هذه الآية أن يراد به اختلاف الأوصاف( {[1491]} ) ، و { الليل } جمع ليلة وتجمع ليالي ، وزيدت فيها الياء كما زيدت في كراهية وفراهية ، و { النهار } يجمع نهراً وأنهرة ، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم «إنما هو بياض النهار وسواد الليل »( {[1492]} )
، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها ، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة( {[1493]} ) فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال : [ الطويل ]
ملكتُ بها كفي فأَنْهرْت فتْقَها . . . يَرى قائمٌ من دونِها ما وراءَها( {[1494]} )
وقال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس( {[1495]} ) قال : وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم( {[1496]} ) ، و { الفلك } السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، وليست الحركات تلك بأعيانها ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم فلكان( {[1497]} ) ، والفلك المفرد مذكر ، قال الله تعالى : { في الفلك المشحون }( {[1498]} ) [ الشعراء : 119 ] .
و «ما ينفع الناس » هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج ، والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها ، فلذلك خص ذكر الانتفاع إذ قد تجري بما يضر ، و { ما أنزل الله من السماء من ماء } يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، و { بث } معناه فرق وبسط( {[1499]} ) ، و { دابة } تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب ، وهذا مردود ، وقال الأعشى : [ الطويل ] :
دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ( {[1500]} ) . . . وقال علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
صَواعِقُهَا لطيرِهِنَّ دَبِيبُ( {[1501]} ) . . . و { تصريف الرياح } إرسالها عقيماً وملقحة وصراً ونصراً وهلاكاً ، ومنه إرسالها جنوباً وشمالاً وغير ذلك ، و { الرياح } جمع ريح ، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله تعالى { وجرين بهم بريح طيبة }( {[1502]} ) [ يونس : 22 ] ، وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح يقول : اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً ( {[1503]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذلك لأن ريح العذاب شديد ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة( {[1504]} ) فلذلك هي رياح وهو معنى " نشراً " ، وأفردت مع الفلك لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة ، ثم وصفت بالطيب( {[1505]} ) فزال الاشتراك بينهما وبين ريح العذاب ، وهي لفظة من ذوات الواو ، يقال ريح وأرواح ، ولايقال أرياح ، وإنما قيل رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها ، وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال( {[1506]} ) بن جرير ، فاستعمل الأرياح في شعره ولحن في ذلك ، وقال له أبو حاتم( {[1507]} ) : إن الأرياح لا تجوز ، فقال : أما تسمع قولهم رياح ؟ ، فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال : صدقت ورجع ، وأما القراء السبعة فاختلفوا فقرأ نافع { الرياح } في اثني عشر موضعاً : هنا وفي الأعراف { يرسل الرياح } [ الآية : 57 ] ، وفي إبراهيم{ اشتدت به الرياح } [ الآية : 8 ] وفي الحجر { الرياح لواقح } [ الآية : 22 ] ، وفي الكهف { تذرو ه الرياح } [ الآية : 45 ] ، وفي الفرقان { أرسل الرياح } [ الآية : 22 ] ، وفي النمل { ومن يرسل الرياح } [ الآية : 63 ] ، وفي الروم [ الآيتان : 46 ، 48 ] في موضعين ، وفي فاطر [ الآية : 9 ] وفي الجاثية [ الآية : 5 ] وفي حم عسق { يسكن الرياح }( {[1508]} ) [ الآية : 33 ] ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد : في إبراهيم وفي حم عسق ، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع ، وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع : هنا وفي الحجر وفي الكهف وفي الروم الحرف الأول وفي الجاثية { وتصريف الرياح } وباقي ما في القرآن بالإفراد ، وقرأ حمزة بالجمع في موضعين : في الفرقان وفي الروم الحرف الأول( {[1509]} ) وأفرد سائر ما في القرآن ، وقرأ الكسائي كحمزة وزاد عليه في الحجر { الرياح لواقح } [ الآية : 22 ] ، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس في ألف ولام ، و { السحاب } جمع سحابة ، سمي بذلك لأنه ينسحب ، كما قالوا حباً لأنه يحبو ، قاله أبو علي الفارسي( {[1510]} ) ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر ، فهذه آيات أن الصانع موجود . والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحداً لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا( {[1511]} ) .