قوله تعالى : { أولئك في ضلال مبين* أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن } لم يعجز عن إبداعهن ، { بقادر } هكذا قراءة العامة ، واختلفوا في وجه دخول الباء فيه ، فقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتأكيد ، كقوله : ( تنبت بالدهن ) . وقال الكسائي والفراء : العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحود ، فتقول : ما أظنك بقائم . وقرأ يعقوب : ( يقدر ) بالياء على الفعل ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله { قادر } بغير باء .
{ 33 } { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
هذا استدلال منه تعالى على الإعادة بعد الموت بما هو أبلغ منها ، وهو أنه الذي خلق السماوات والأرض على عظمهما وسعتهما وإتقان خلقهما من دون أن يكترث بذلك ولم يعي بخلقهن فكيف تعجزه إعادتكم بعد موتكم وهو على كل شيء قدير ؟ "
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ بَلَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم ، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم ، القائلون لاَبائهم وأمهاتهم أفَ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم ، فيروا ويعلموا أن الله الذي خلق السموات السبع والأرض ، فابتدعهنّ من غير شيء ، ولم يعي بإنشائهنّ ، فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ بِقادِرٍ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم .
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله : بِقادِرٍ فقال بعض نحويي البصرة : هذه الباء كالباء في قوله : كَفَى باللّهِ وهو مثل تَنْبُتُ بالدّهْنِ وقال بعض نحويي الكوفة : دخلت هذه الباء للمَ قال : والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك : ما أظنك بقائم ، وما أظنّ أنك بقائم ، وما كنت بقائم ، فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه ، بما تعمل فيه من الفعل ، قال : ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع رفع ، لأنه خبر لأن ، قال : وأنشدني بعضهم :
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ *** حَكِيمُ بنُ المُسيّبِ مُنْتَهاها
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب بالفعل لا بالباء ، يقاس على هذا ما أشبهه .
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله : هذه الباء دخلت للجحد ، لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ «أوَ لَمْ يَرَوْا أنّ اللّهَ قادِرٌ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى » قال : فأنّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها ، ولا تدخل فيه الباء ، ولكن معناه جحد ، فدخلت للمعنى .
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلاّ ، وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه ، ويقولون : ما ظننت أن زيدا إلا قائما ، وما ظننت أن زيدا بعالم . وينشد :
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ *** عَلى عَمّيّةٍ إلاّ زِيادا
قال : فأدخل إلا بعد جواب اليمين ، قال : فأما «كَفَى بِاللّهِ » ، فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح ، وهي للتعجّب ، كما تقول لظَرُفَ بزيد . قال : وأما تَنْبُتُ بالدهن فأجمعوا على أنها صلة . وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : دخلت الباء في قوله بقادِرٍ للجَحْد ، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العِلل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بِقادِرٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار ، عن أبي إسحاق والجَحْدِريّ والأعرج بِقادِرٍ وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها . وأما الاَخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرأون ذلك «يقدر » بالياء . وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود «أنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ » بغير باء ، ففي ذلك حجة لمن قرأه «بقادِرٍ » بالباء والألف . وقوله : بَلى إنّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : بلى ، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى : أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه ، وأراد فعله ، ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده ، ولا يُعييه شيء أراد فعله ، فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء ، لأن من عجز عن ذلك فضعيف ، فلا ينبغي أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا .
وقوله تعالى : { أو لم يروا } الضمير لقريش ، وهذه آية مثل واحتجاج ، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد ، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم . والرؤية في قوله : { أو لم يروا } رؤية القلب .
وقرأ جمهور الناس : «ولم يعْيَ » بسكون العين وفتح الياء الأخيرة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يعِ » بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف{[10336]} .
والباء في قوله : { بقادر } زائدة مؤكدة ، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك : ما زيد بقائم كان بدل { أو لم يروا } أوليس الذي خلق .
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس : «بقادر » وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد : «يقدر » بالياء على فعل مستقبل ، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده . وفي مصحف عبد الله بن مسعود «بخلقهن قادر » .
و : { بلى } جواب بعد النفي المتقدم ، فهي إيجاب لما نفي ، والمعنى : بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم ، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله : { إنه على كل شيء قدير } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.