قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } رجعوا كفاراً ، { من بعد ما تبين لهم الهدى } قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . وقال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : هم المنافقون . { الشيطان سول لهم } زين لهم القبيح ، { وأملى لهم } قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك ، وتروى هذه القراءة عن يعقوب ، وقرأ الآخرون : ( وأملى لهم ) بفتح الألف ، أي : وأملى الشيطان لهم ، مد لهم في الأمل .
{ 25-28 } { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال والكفران ، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان ، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
وقوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجة ، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى هم أعداء الله أهل الكتاب ، يعرفون بعث محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم ، ثم يكفرون به .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى إنهم يجدونه مكتوبا عندهم .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النفاق . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى قوله فأَحْبَطَ أعمالَهُمْ هم أهل النفاق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى إسْرَارَهُمْ هم أهل النفاق . وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا ، أشبه منها بصفة أهل الكتاب ، وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم لِلّذِينَ كَرِهُوا ، ما نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُم في بَعْضِ الأَمْرِ ولو كانت من صفة أهل الكتاب ، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا .
وقوله : الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ يقول تعالى ذكره : الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ وأمْلَى لَهُمْ يقول : زين لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَوّلَ لَهُمْ يقول : زين لهم .
وقوله : وأمْلَى لَهُمْ يقول : ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر ، ومعنى الكلام : الشيطان سوّل لهم ، والله أملى لهم .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة وأمْلَى لَهُمْ بفتح الألف منها بمعنى : وأملى الله لهم . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة «وأُمْلِيَ لَهُمْ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه «وأُمْلِي » بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم .
وأولى هذه القراءات بالصواب ، التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك ، لأنها القراءة المستفيضة في قَرَأةَ الأمصار ، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه .
وقوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } الآية ، قال قتادة : إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم . والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر . و : { سول } معناه : أرجاهم سولهم وأمانيهم ، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى : دلاهم ، مأخوذ من السول : وهو الاسترخاء والتدلي{[10375]} .
وقرأ جمهور القراء : «وأملى لهم » وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف : «أملى » . وفاعل { أملى } هنا : قال الحسن : هو { الشيطان } جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء ، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر ، يقال مُلاوة ومَلاوة ومِلاوة بضم الميم وفتحها وكسرها ، وهي القطعة من الزمن ، ومنه الملوان الليل والنهار ، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب ، ويحتمل أن يكون الفاعل في { أملى } الله عز وجل ، كأنه قال : الشيطان سول لهم وأملى الله لهم . وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل ، وهذا هو الأرجح . وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش : «وأُملِي لهم » بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم ، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأُمليَ » بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني ، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.