جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ} (25)

وقوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجة ، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى هم أعداء الله أهل الكتاب ، يعرفون بعث محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم ، ثم يكفرون به .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى إنهم يجدونه مكتوبا عندهم .

وقال آخرون : عنى بذلك أهل النفاق . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى قوله فأَحْبَطَ أعمالَهُمْ هم أهل النفاق .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى إسْرَارَهُمْ هم أهل النفاق . وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا ، أشبه منها بصفة أهل الكتاب ، وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم لِلّذِينَ كَرِهُوا ، ما نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُم في بَعْضِ الأَمْرِ ولو كانت من صفة أهل الكتاب ، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا .

وقوله : الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ يقول تعالى ذكره : الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ وأمْلَى لَهُمْ يقول : زين لهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَوّلَ لَهُمْ يقول : زين لهم .

وقوله : وأمْلَى لَهُمْ يقول : ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر ، ومعنى الكلام : الشيطان سوّل لهم ، والله أملى لهم .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة وأمْلَى لَهُمْ بفتح الألف منها بمعنى : وأملى الله لهم . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة «وأُمْلِيَ لَهُمْ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه «وأُمْلِي » بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم .

وأولى هذه القراءات بالصواب ، التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك ، لأنها القراءة المستفيضة في قَرَأةَ الأمصار ، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه .