قوله تعالى : { وزخرفاً } أي وجعلنا مع ذلك لهم زخرفاً وهو الذهب ، نظيره : { أو يكون لك بيت من زخرف }( الإسراء-93 ) ، { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } فكان : " لما " بمعنى إلا ، وخففه الآخرون على معنى : وكل ذلك متاع الحياة الدنيا ، فيكون : " إن " للابتداء ، و " ما " صلة ، يريد : إن هذا كله متاع الحياة الدنيا يزول ويذهب ، { والآخرة عند ربك للمتقين } خاصة يعني الجنة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن بسطام ، أنبأنا أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس حدثنا أبو مسلم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها قطرة ماء " . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن خالد بن سعيد ، عن قيس بن حازم ، عن المستورد بن شداد أخو بني فهر قال : " كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها " .
ولجعل لهم { زخرفا } أي : لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ، وأعطاهم ما يشتهون ، ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم ، وأن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغصة ، مكدرة ، فانية ، وأن الآخرة عند اللّه تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون ، فما أشد الفرق بين الدارين " .
وقوله : وَزُخْرُفا يقول : ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا ، وهو الذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَزُخْرُفا وهو الذهب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَزُخْرُفا قال : الذهب . وقال الحسن : بيت من زُخرف ، قال : ذهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَزُخْرُفا الزخرف : الذهب ، قال : قد والله كانت تكره ثياب الشهرة . وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إيّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنّها مِنْ أحَبّ الزّينَةِ إلى الشّيْطانِ » .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَزُخْرُفا قال : الذهب .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَزُخْرُفا قال : الذهب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَزُخْرُفا لجعلنا هذا لأهل الكفر ، يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها . والزخرف سمى هذا الذي سمى السقف ، والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع .
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَزُخْرُفا يقول : ذهبا . والزخرف على قول ابن زيد : هذا هو ما تتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والاَلات .
وفي نصب الزخرف وجهان : أحدهما : أن يكون معناه : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف ، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك ، والمعنى فيه : فكأنه قيل : وزخرفا يجعل ذلك لهم منه . والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على السرر ، فيكون معناه : لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة ، وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها ، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف ، فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة . وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل ، وواحدها معراج ، على جمع مِعرج ، كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح ، لأنهما لغتان : معرج ، ومفتح ، ولو جمع معاريج كان صوابا ، كما يجمع المفتاح مفاتيح ، إذ كان واحده معراج .
وقوله : وَإنْ كُلّ ذلكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : وما كلّ هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف ، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لَلْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره : وزين الدار الاَخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين ، الذين اتقوا الله فخافوا عقابه ، فجدّوا في طاعته ، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لِلْمْتّقِينَ خصوصا .
{ وزخرفا } وزينة عطف على { سقفا } أو ذهبا عطف على محل من فضة { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } إن هي المخففة واللام هي الفارقة . وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية ، وقرئ به مع أن وما { والآخرة عند ربك للمتقين } عن الكفر والمعاصي ، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا ، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإيمان ، وهو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن }
{ ولولا } حرف امتناع لوجود ، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوععِ جوابها لأجل وقوع شرطها ، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة ، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها .
لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس ، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين ، بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] وقوله : { ورحمة ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] ، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيراً ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير ، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسباباً نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثاراً مناسبة لها ، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة ، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول . وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة ، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك ، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية .
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، فهذه الجملة عطف على جملة { ورحمت ربك خير مما يجمعون } [ الزخرف : 32 ] .
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس ، فيكون التعريف للاستغراق ، أي جميع البشر . والأمة : الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي{[374]} .
فالمعنى عليه : لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفاراً لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة ، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى : لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراضضِ الإيمان ، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة ، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله : { ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم } [ هود : 118 ، 119 ] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم ، أي أبقى بينهم بصيصاً من نور الهدى .
ويحتمل وهو الأولى عندي : أن يكون التعريف في { الناس } للعهد مراداً به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى : { إن النّاس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] ويكون المراد بكونهم أمّة واحدة اتحادهم في الثراء .
والمعنى : لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض ، هذا لمالِه ، وهذا لصناعته ، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمان وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية . وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزناً فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال ، فصار الكلام يقتضي مقدَّراً محذوفاً تقديره لكن لا يكون النّاس سَواء في الغِنى لأنّا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنّه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم ، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه .
ويرجح هذا جعل متعلق فعل { يكفر } خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وقد تكرر التورّك عليهم بذلك في آي كثيرة .
ومعنى { لجعلنا لمن يكفر } لَقدَّرنا في نظام المجتمع البشري أسبابَ الثراء متصلةً بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سبباً ومجلبة للغنى ، ولو أراد الله ذلك لهيّأ له أسبابه في عقول النّاس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفاً منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظاً منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها . وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربّك ما فعلوه .
واللام في قوله : { لبيوتهم } مثل اللام في قوله : { لمن يكفر بالرحمن } ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمان فيكون قوله { لبيوتهم } بدلَ اشتمال ممّن يكفر بالرحمان . وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو : مَن ذا أسعيد أم علي ؟ فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا : من ذا سعيد أم علي ؟ وتقدم عند قوله تعالى : { ومن النخل مِن طَلْعِها قِنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ) .
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمان في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قَرَن التحقيرِ ، ثم يذكر ما يعزّ وجود أمثاله من الفضة والذهب ، وإذ قد كان الخبر كله مستغرباً كان حقيقاً بأن يُنْظَم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل .
وقرأ الجمهور { سُقُفاً } بضم السين وضم القاف جمع سَقف بفتح السين وسكون القاف وهو : البناء الممتد على جدران البيت المغطِّي فضاء البيت ، وتقدم عند قوله تعالى : { فخرّ عليهم السقفُ من فوقهم } في سورة النحل ( 26 ) . وهذا الجمع لا نظير له إلا رَهْن ورُهن ولا ثالث لهما . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر سَقْفاً } بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد . والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله { لبيوتهم } كأنه قيل : لكل بيت سقف .
والزخرف : الزينة قال تعالى : { زخرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) ، فيكون هنا عطفاً على { سقفاً } جمعاً لعديد المحاسن ، ويُطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به ، كقوله : { أو يكونَ لك بيتٌ من زخرفٍ } [ الإسراء : 93 ] ، فيكون { وزخرفاً } عطفاً على { سقفاً } بتأويل : لجعلنا لهم ذهباً ، أي لكانت سُقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذَهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلْوينها . وابتدىء بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللّون ، وأُخّر الذهب لأنه أندر في الحلي ، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنويناً ينقلب في الوقف ألفاً فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف .
ويجوز أن يكون لفظ { زخرفاً } مستعملاً في معنييه استعمال المشترك ، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقُف والمعارج بالفضة . و { معارج } اسمُ جمع مِعْراج ، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي .
ومعنى { يظهرون } : يعلُون كما في قوله تعالى : { فما استطاعوا أن يَظْهروه } [ الكهف : 97 ] ، أي أن يتسوروه .
وسُرُر بضمتين : جمع سرير ، وتقدم عند قوله تعالى : { على سُرُرٍ متقابلين } في سورة الصافات ( 44 ) ، وفائدة وصفها بجملة { عليها يتكئون } الإشارة إلى أنهم يُعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب . والمراد أن المعارج والأبواب والسُّرُر من فضة ، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وُصف المعطوف عليه .
وذيّل بقوله : { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } أي كل ما ذكر من السّقُف والمعارج والأبواب والسُرر من الفضة والذهب متاع الدنيا لا يعود على من أُعطِيه بالسعادة الأبدية وأما السعادة الأبدية فقد ادخرها الله للمتقين وليست كمثل البهارج والزينة الزائدة التي تصادف مختلِف النفوس وتكثر لأهل النفوس الضئيلة الخسيسة وهذا كقوله تعالى : { زُين للنّاس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوَّمة والأنعامِ والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المئاب } [ آل عمران : 14 ] .
وقرأ الجمهور { لما } بتخفيف الميم فتكون { إنْ } التي قبلها مخففة من ( إنّ ) المشددة للتوكيد وتكون اللام الداخلة على { لَمَا } اللامَ الفارقة بين ( إنْ ) النافية و ( إنْ ) المخففة و ( ما ) زائدة للتوكيد بين المضاف والمضاف إليه . وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر { لَمَّا } بتشديد الميم فهي { لَمَّا } أخت ( ألاَّ ) المختصة بالوقوع في سياق النفي فتكون { إِنْ } نافية ، والتقدير : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وزخرفا}، يقول: وجعلنا كل شيء لهم من ذهب.
{وإن كل ذلك}: وما كل الذي ذكر.
{لما} إلا {متاع الحياة الدنيا} يتمتعون فيها قليلا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَزُخْرُفا" يقول: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا، وهو الذهب...
أحدهما: أن يكون معناه: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك، والمعنى فيه: فكأنه قيل: وزخرفا يجعل ذلك لهم منه.
والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على السرر، فيكون معناه: لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة، وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة...
وقوله: "وَإنْ كُلّ ذلكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا "يقول تعالى ذكره: وما كلّ هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا.
"وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لَلْمُتّقِينَ" يقول تعالى ذكره: وزين الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدّوا في طاعته، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَزُخْرُفاً} فيه ثلاثة أقاويل:
الثاني: الفرش ومتاع البيت، قاله ابن زيد.
الثالث: أنه النقوش، قاله الحسن...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
"والآخرة عند ربك للمتقين" وعد كريم وتحريض على التقوى إذ في الآخرة هو التباين في المنازل...
{وزخرفا} له تفسيران: (أحدها) أنه الذهب (والثاني) أنه الزينة، بدليل قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت}. فعلى التقدير الأول يكون المعنى ونجعل بهم مع ذلك ذهبا كثيرا، وعلى الثاني أنا نعطيهم زينة عظيمة في كل باب.
ثم بين تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدنيا، وإنما سماه متاعا لأن الإنسان يستمتع به قليلا ثم ينقضي في الحال، وأما الآخرة فهي باقية دائمة، وهي عند الله تعالى وفي حكمه للمتقين عن حب الدنيا المقبلين على حب المولى.
وحاصل الجواب أن أولئك الجهال ظنوا أن الرجل الغني أولى بمنصب الرسالة من محمد بسبب فقره، فبين تعالى أن المال والجاه حقيران عند الله، وأنهما شرف الزوال فحصولهما لا يفيد حصول الشرف والله أعلم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها...
{وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم: فيها أحد غيرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
دل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله: {وزخرفاً} أي ذهباً وزينة عامة كاملة. ولما كان لفظ الزخرف دالاً على كون ذلك أمراً ظاهرياً متلاشياً عند التحقيق، دل عليه بقوله مؤكداً لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك، وما كان مقرراً عندهم من أن السعيد في الأولى سعيد في الآخرة على تقدير كونها: {وإن} أي وما
{كل ذلك} أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا؛ ولأن صاحبه لا يزال فقيراً وإن استوسقت له الدنيا ملكاً وملكاً؛ لأنه لا بد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبوناً.
{لما} أي إلا -هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد: وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة، وما مؤكدة والخبر هو {متاع الحياة الدنيا} أي التي اسمها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة، وهو منقطع بالموت، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب؛ لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب.
{والآخرة} التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي.
ولما كانت الإضافة إلى الجليل دالة على جلالة المضاف إليه فقال: {عند ربك} وأشار بالوصف بالرب إلى أن الجلالة بالحسن والراحة، وبالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم في أعلى الغايات {للمتقين} أي الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم، وهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الأخرى".
ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة من الجبابرة من زخرفة الأبنية وتركيب السقوف وغيرها من مساوئ الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة بالكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، وفي زمن الدجال من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة، بحيث إنهم لا عداد لهم في جانب الكفرة؛ لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"والآخرة عند ربك للمتقين".. وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف.