اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَزُخۡرُفٗاۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُتَّقِينَ} (35)

قوله : { وزُخْرُفا } يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي وجَعَلْنَا لَهُمْ زُخْرُفاً{[49800]} ، وجوز الزمخشري أن ينصب عطفاً على محل «من فضة » ، كأنه قيل : سُقُفاً من فضةٍ وذهب{[49801]} ، فلما حذف الخافض انتصب أي بعضها كذا وبعضها كذا .

الزخرف قيل : هو الذَّهَبُ ، لقوله : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } [ الإسراء : 93 ] .

وقيل : الزخرف الزينة ، لقوله تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت }{[49802]} [ يونس : 24 ] فيكون المعنى نُعْطِيهم زينةً في كل بابٍ .

قوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } قرأ حمزة وعاصم لَمَّا بالتشديد على معنى : وما كُل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا . فكان لما بمعنى إلا{[49803]} . حكى سيبويه : «أَنْشَدْتُكَ بِالله لَمَّا فَعَلْتَ » بمعنى إلا{[49804]} . ويؤيد هذه القراءة قراءةٌ مَنْ قرأ : وَمَا ذَلِكَ إلاَّ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا{[49805]} وخففه الآخرون على معنى : وكل ذلك متاع الحياة الدنيا . فتكون اللام للابتداء ، وما صلة{[49806]} يريد : أن هذا كله متاع الحياة الدنيا وسماه متاعاً ، لأن الإنسان يستمتع به قليلاً ، ثم يزول ويذهب . وتقدم الخلاف في لما تخفيفاً وتشديداً في سورة هُودٍ{[49807]} .

قال أبو الحسن{[49808]} : الوجه التخفيف ، لأن لما بمعنى إلا لا يُعْرَفُ{[49809]} . وحكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل{[49810]} . وقرأ أبو رَجَاءٍ وأبو حَيْوَةَ : لِمَا بكسر{[49811]} اللام على أنها لام العلة ودخلت على ما الموصولة ، وحذف عائدها ، وإن لم تَطُّلِ الصّلة ، والأصل : الذي هو متاع ، كقوله : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] برفع النون .

و«إنْ » هي المخففة من الثقيلة ، و«كل » مبتدأ ، والجار بعده خبره ، أي وإنَّ كُلَّ ما تقدم ذكره كائنٌ لِلَّذِي هُوَ متاع الحياة . وكان الوجه أن تدخل اللام الفارقة ، لعدم إعمالها ، إلا إنها لما دَلَّ الدليلُ على الإثبات جاز حَذْفها{[49812]} ، كما حذفها الآخر في قوله ( رحمه الله ){[49813]} :

4401 أَنَا ابْنُ أُبَاةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مَالِكٍ *** وَإنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ{[49814]}

قوله : { والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } خاصة ، يعني الجنة للمتقين عن حب الدنيا .

قال عليه الصلاة والسلام : «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوَضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً قَطْرَةَ مَاءٍ »{[49815]} .

وروى المُسْتَوْردُ{[49816]} بنُ شداد قال : «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السحلة الميتة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتُرى هذه هانت على أهلها حين ألقوها ؟ قالوا : مِنْ هَوانِها أَلقَوْها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أهْلِهَا » .

فإن قيل : لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر{[49817]} ، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام ؟ ! .

فالجواب : لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام ، لطلب الدنيا ، وهذا الإيمان إيمان المنافقين ، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل لمتابعة الدليل ، ولِطَلَبِ رضوان الله تعالى ، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب{[49818]} .


[49800]:قاله الفراء في معانيه 2/32 قال: "إن نصبته على الفعل توقعه أي وزخرفا تجعل ذلك لهم منه".
[49801]:الكشاف 3/487، وذكره أيضا ابن الأنباري في البيان 2/253.
[49802]:24 من يونس، وانظر غريب القرآن 397 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/411. وفسره الفراء في معاني القرآن بالذهب انظر معاني الفراء 3/32.
[49803]:الإتحاف 385 والسبعة 586 وهي قراءة متواترة.
[49804]:سبق هذا.
[49805]:ذكرها الكشاف بدون عزو في 3/487. ونسبها الرازي إلى أبي بن كعب. انظر الرازي 27/211.
[49806]:ولفظة "ما" لغو، قاله الرازي نقلا عن الواحدي، انظر المرجع السابق.
[49807]:من قوله تعالى: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك} من الآية 111.
[49808]:تصحيح عن النسختين ففيها أبو الحسين، والأصح ما أثبت أعلى فهو أبو الحسن الأخفش الأوسط.
[49809]:قال في معاني القرآن: "خفيفة منصوبة اللام. وقال بعضهم لما فثقل ونصب اللام وضعف الميم وزعم أنها في التفسير الأول إلا، وأنها كلام العرب". معاني القرآن له 688 و689، وانظر عنه أيضا القرطبي 16/88 والرازي 27/211.
[49810]:المرجع السابق.
[49811]:المرجعين السابقين، وانظر أيضا المحتسب 2/255.
[49812]:وانظر البحر المحيط 8/15 والدر المصون 4/782.
[49813]:زيادة من أ.
[49814]:من الطويل وهو للطرماح بن حكيم، والأباة جمع آب، وهو الممتنع، والضيم الذل. والشاهد: حذف اللام الفارقة التي تفرق بين إن المخففة من الثقيلة من غيرها، والأصل: "لكانت" حيث دل دليل على الإثبات كما ذكر أعلى وانظر الهمع 1/14 وابن الناظم 68، والتصريح 1/241 والبحر المحيط 8/15 والدر المصون 4/782، وشرح الشواهد للعيني على الأشموني 1/289.
[49815]:هو لسهل بن سعد عن رسول الله، انظر ابن ماجه 2/1377.
[49816]:ابن عمرو بن حبيب بن شيبان القرشي الفهري صحابي، له سبعة أحاديث مات سنة 45 انظر خلاصة الكمال 274.
[49817]:في ب على الإسلام.
[49818]:انظر الرازي 27/212.