قوله تعالى : { ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت } ، مضت .
قوله تعالى : { من قبله الرسل } ، أي : ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة .
قوله تعالى : { وأمه صديقة } ، أي : كثيرة الصدق ، وقيل : سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله ، كما قال عز وجل في وصفها : { وصدقت بكلمات ربها } [ التحريم : 12 ] . قوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } ، أي كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين ، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام ؟ وقيل : هذا كناية عن الحدث ، وذلك أن من أكل وشرب لابد له من البول والغائط ، ومن هذه صفته كيف يكون إلهاً ؟ ثم قال : { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } ، أي يصرفون عن الحق .
ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه ، الذي هو الحق ، فقال : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ْ } أي : هذا غايته ومنتهى أمره ، أنه من عباد الله المرسلين ، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع ، إلا ما أرسلهم به الله ، وهو من جنس الرسل قبله ، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية .
{ وَأُمَّهُ ْ } مريم { صِدِّيقَةٌ ْ } أي : هذا أيضا غايتها ، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء . والصديقية ، هي العلم النافع المثمر لليقين ، والعمل الصالح . وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية ، بل أعلى أحوالها الصديقية ، وكفى بذلك فضلا وشرفا . وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية ، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين ، في الرجال كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ْ } فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله ، وأمه صديقة ، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله ؟
وقوله : { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ْ } دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران ، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب ، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب ، ولم يحتاجا إلى شيء ، فإن الإله هو الغني الحميد .
ولما بين تعالى البرهان قال : { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ْ } الموضحة للحق ، الكاشفة لليقين ، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا ، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم ، وذلك ظلم وعناد منهم .
{ مّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } . .
وهذا ( خبرٌ ) من الله تعالى ذكره احتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على فرق النصارى في قولهم في المسيح . يقول مكذّبا لليعقوبية في قيلهم : هو الله ، والاَخرين قي قيلهم : هو ابن الله : ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح ، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهنّ ، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر ، وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا ، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الاَيات والعبر حجة له على صدقه وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه ، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الاَيات والعبر حجة لهم على حقيقة صدقهم في أنهم لله رسل . وأُمّهُ صِدّيقَة يقول تعالى ذكره : وأمّ المسيح صدّيقة ، والصدّيقة : الفِعّيلة من الصدق ، وكذلك قولهم فلان صدّيق : فعيل من الصدق ، ومنه قوله تعالى ذكره : وَالصّدّيقِينَ والشّهَدَاءِ . وقد قيل : إنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه إنما قيل له الصدّيق لصدقه ، وقد قيل : إنما سمي صدّيقا لتصديقه النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها . وقوله : كانَا يَأكُلانِ الطّعامَ خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم . فإنّ من كان كذلك ، فعير كائن إلها لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره ، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه ، والعاجز لا يكون إلاّ مربوبا لا ربّا .
القول في تأويل قوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَياتِ ثُمّ انْظُرْ أنّى يُؤْفَكُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الاَيات ، وهي الأدلة والأعلام والحجج على بطول ما يقولون في أنبياء الله ، وفي فريتهم على الله ، وادّعائهم له ولدا ، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربّ وإله ، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قيلهم ، ولا ينزجرون عن فِرْيتهم على ربهم وعظيم جهلهم ، مع ورود الحجج القاطعة عذرهم عليهم . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم انظر يا محمد أنّى يؤفكون ؟ يقول : ثم انظر مع تبييننا لهم آياتنا على بطول قولهم : أيّ وجه يُصْرفون عن بياننا الذي بينته لهم ، وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحقّ يضِلون ؟ والعرب تقول لكلّ مصروف عن شيء : هو مأفوك عنه ، يقال : قد أَفَكْتُ فلانا عن كذا : أي صرفته عنه ، فأنا آفِكه أفْكا ، وهو مأفوك ، وقد أُفِكَتِ الأرضُ : إذا صرف عنها المطر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.