فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

قوله :

{ مَا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } أي هو مقصور على الرسالة ، لا يجاوزها كما زعمتم ، وجملة { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها ، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها ، فإن الله أحيا العصا في يد موسى ، وخلق آدم من غير أب ، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ، ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها ؟ فإن كان كما تزعمون إلها لذلك ، فمن قبله من الرسل الذين جاؤوا بمثل ما جاء به آلهة ، وأنتم لا تقولون بذلك . قوله : { وَأُمُّهُ صِديقَة } عطف على المسيح ، أي وما أمه إلا صدّيقة أي صادقة فيما تقوله أو مصدّقة لما جاء به ولدها من الرسالة ، وذلك لا يستلزم الإلهية لها ، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء . قوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر ، أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس بربّ ، بل هو عبد مربوب ولدته النساء ، فمتى يصلح لأن يكون رباً ؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته ، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت ، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً ، ولو صحّ هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد { انظر كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيات } أي الدلالات ، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ، ويغفلون عن كونها موجودة في زمن لا يقولون بأنه إله { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ؟ يقال أفكه يأفكه إذا صرفه ، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت .

/خ75