محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلاهيتهما ، بأن غايتهما الدلالة على نبوته وولايتها ، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقولوا عليهما ، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال :

[ 75 ] { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون ( 75 ) } .

{ ما المسيح } أي : المعلوم حدوثه من كونه { ابن مريم } بالخوارق الظاهرة على / يديه { إلا رسول قد خلت } أي : مضت { من قبله الرسل } أولو الخوارق الباهرة . فله أسوة أمثاله . كما قال تعالى : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه }{[3169]} . أي : ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها . إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى علي يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى . وهو أعجب . وإن خلقه من غير أب . فقد خلق آدم من غير أب ولا أم . وهو أغرب منه . وفي الآية وجه آخر : أي مضت من قبله الرسل ، فهو يمضي مثلهم . فالجملة – على كل- منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية { وأمه صديقة } أي : مبالغة في الصدق . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } . والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمهما . فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها ؟ .

تنبيه :

قال ابن كثير :

دلت الآية على أن مريم ليست بنبية . كما زعمه ابن حزم وغيره- ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى- استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } . وهذا معنى النبوة . والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال . قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى }{[3170]} . وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري ، رحمه الله ، الإجماع على ذلك . انتهى .

/ فائدة ( في حقيقة الصديق والصدق ) :

الصديق الكثير الصدق . كما يقال : سكين وصريع إذا كثر منه ذلك . والصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا ، قولا وفعلا ، وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوة . بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة . قال تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم . . . } الآية{[3171]} . فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما . ثم بين قدس سره صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، وصدق الأحوال . ( فالأول ) هو موافقة الضمير للنطق . قال الجنيد : حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك فيه إلا الكذب . و ( صدق الأفعال ) هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة . قال المحاسبي : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه . ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله . لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم . وليس هذا من أخلاق الصديقين . و ( صدق الأحوال ) اجتماع الهم على الحق ، بحيث لا يختلج في القلب تفرقة عن الحق بوجه .

وقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء . وفيه تبعيد عما نسب إليهما .

قال الزمخشري : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام ، وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة ، مع شهوة وغير ذلك . . . مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام .

/ لطيفة :

إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ، ترقيا في باب الاستدلال من الجلي للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه ، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته . فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا .

هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير .

وأما قول الخفاجي- ملخصا كلام البيضاوي- في سر ذلك : أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما ، وأنه لا يقتضي الألوهية ، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما ، على حد قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } . حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم انتهى- فبعيد .

وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين . فالأظهر ما ذكرناه ، والله أعلم بأسرار كتابه .

{ انظر كيف نبين لهم الآيات } أي : على توحيد الله ، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه ، وبطلان شبهاتهم  ! { ثم انظر أنى يؤفكون } أي : كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان .   !

قال أبو السعود : وتكرير الأمر بالنظر ، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ، ولا يرعوون عن ذلك ، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب ، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت . أي : إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه ، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح . وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة ، وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع .


[3169]:- [43/ الزخرف/ 59] {... وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)}.
[3170]:- [12/ يوسف/ 109] {... أفلم يسيروا في الأرض فينظرون كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وللدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109)}.
[3171]:- [19/ مريم/ 58] {... من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)}.