تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

وقوله تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } في الآية دلالة المحاجة مع الفريقين [ في وجهين : أحدهما : أنهم ] كانوا فريقين ؛ أحد الفريقين كانوا يكفرون أنه رسول ، والفريق الآخر يدعون له الربوبية والألوهية . فقال : إنه ابن مريم ، وابن مريم لا يحتمل أن يكون إلها .

والثاني : أخبر أنه { رسول قد خلت من قبله الرسل } أي قد خلت من قبل عيسى رسل مع آيات وبراهين . لم يقل أحد من الأمم السالفة أنهم كانوا آلهة ، فكيف قلتم أنتم بأن عيسى إله ؟ وإن كان معه آيات وبراهين رسالته .

وقوله تعالى : { وأمه صديقة } قيل : مطهرة من الأقدار كلها صالحة . وقيل : { صديقة } تشبه النبيين ، وذلك إن جبريل عليه السلام لما أتاها ، وقال : { قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } [ مريم : 19 ] صدقته كتصديق الأنبياء والرسل الملائكة . وأما سائر الخلائق إنما يصدقون الملائكة بإخبار الرسل إياهم ، وهي إنما صدقت جبريل بإخباره [ إياها ] أنه ملك وأنه رسول . لذلك سميت صديقة ، والله أعلم .

وقيل : كل مؤمن صديق كقوله تعالى : { والذين ءامنوا بالله ورسله ، أولئك هم الصديقون } الآية [ الحديد : 19 ] .

وقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } فيه الاحتجاج عليهم من وجهين :

أحدهما : أن الجوع كان يغلبهما ، ويحوجهما إلى أن يدفعا ذلك عن نفسهما . ومن غلبه الجوع ، وقهره ، كيف يصلح أن يكون ربا وإلها ؟

والثاني : أنهما إذا احتاجا إلى الطعام لا بد من أن يدفعهما ذلك إلى إزالة الأذى عن نفسهما ودفعه والقيام في أخبث الأماكن وأقبحها . فمن دفع إلى ذلك لا يكون إلها . تعالى الله عن ذلك علوا كثيرا .

وقوله تعالى : { انظر كيف نبين لهم الآيات } والآيات ما ذكر من وجهي المحاجة عليهم :

أحدهما : أنه ابن /134- بريم ؛ ومن كان ابن آخر لا يكون إلها .

والثاني : من أكل الطعام احتاج أن يدفع عن نفسه الأذى ، ويقوم في أخبث مكان . ومن كان هذا أمره لم يكن ربا . وليس في القرآن ، والله أعلم ، آية أكثر ولا أبين احتجاجا على النصارى ولا أقطع لقولهم [ من ] هذه الآية للمعاني التي وصفنا .

وقوله تعالى : { ثم انظر أنى يؤفكون } أي من أين يكذبون ؟ قال أبو عبيدة : يؤفكون يصرفون ، ويحادون عن الحق . كل من صرفته عن شيء فقد أفكته . ويقال : أفكت الأرض إذا صرف عنها القطر كقوله تعالى : { يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 9 ] .

وقال ابن عباس رضي الله عنه : { وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } [ الأحقاف : 28 ] قال : أضلهم فقد صرفهم عن الهدى .

قال أبو عوسجة : الإفك عندي الصرف عن الحق ، وفي الأصل : الإفك الكذب . وقال القتبي : { يؤفكون } يصرفون عن الحق ، ويعذبون . وقيل : { أنى يؤفكون } يخدعون بالكذب .