قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } ، الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة ، وتحصن في أطم من أطامها ، فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام ، وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ، ولا أذوق طعاماً ، ولا شراباً ، حتى تأتوني به ، فخرجا في طلبه ، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة ، فأتوا عياشاً وهو في الأطم ، قالا له : انزل ، فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت ألا تأكل طعاماً ، ولا تشرب شراباً ، حتى ترجع إليها ، ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ، ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له جزع أمه ، وأوثقوا له بالله نزل إليهم ، فأخرجوه من المدينة ، ثم أوثقوه بنسعة ، فجلده كل واحد منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت : والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله ، فأعطاهم الذي أرادوا ، فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش ، أهذا الذي كنت عليه ؟ فوا الله لئن كان هدىً لقد تركت الهدى ، ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته ، وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك ، ثم إن عياشاً أسلم بعد ذلك وهاجر ، ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عياش حاضراً يومئذ ، ولم يشعر بإسلامه ، فبينما عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله ، فقال الناس : ويحك أي شيء قد صنعت إنه قد أسلم ؟ فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته ، فنزل : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } . وهذا نهى عن قتل المؤمن كقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } . [ الأحزاب :53 ] .
قوله تعالى : { إلا خطأ } استثناء منقطع معناه : لكن إن وقع خطأ .
قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } أي : فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة .
قوله تعالى : { ودية مسلمة }كاملة .
قوله تعالى : { إلى أهله } أي : إلى أهل القتيل الذين يرثونه .
قوله تعالى : { إلا أن يصدقوا } أي : يتصدقوا بالدية ، فيعقوا ويتركوا الدية .
قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ، أراد به : إذا كان الرجل مسلماً في دار الحرب منفرداً مع الكفار ، فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه ، وعليه الكفارة ، وقيل : المراد منه إذا كان المقتول مسلماً في دار الإسلام ، وهو من نسب قوم كفار ، وقرابته في دار الحرب حرب للمسلمين ، ففيه الكفارة ولا دية لأهله ، وكان الحارث بن زيد من قوم كفار ، حرب للمسلمين ، وكان فيه تحرير رقبة ، ولم يكن فيه دية ، لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد .
قوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } . أراد به : إذا كان المقتول كافراً ذمياً ، أو معاهداً فيجب فيه الدية ، والكفارة ، تكون بإعتاق رقبة مؤمنة ، سواء كان المقتول مسلماً ، أو معاهداً ، رجلاً كان أو امرأة ، حراً كان أو عبداً ، وتكون في مال القاتل .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } ، والقاتل إن كان واجداً للرقبة ، أو قادراً على تحصيلها بوجود ثمنها ، فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه ، فعليه الإعتاق ، ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم ، فإن عجز عن تحصيلها فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر يوماً متعمداً في خلال الشهرين ، أو نسي النية ، أ أو نوى صوماً آخر ، وجب عليه استئناف الشهرين . وإن فصل يوماً بعذر مرض أو سفر ، فهل ينقطع التتابع ؟ اختلف أهل العلم فيه ، فمنهم من قال : ينقطع وعليه استئناف الشهرين ، وهو قول النخعي ، وأظهر قولي الشافعي رضي الله عنه ، لأنه أفطر مختاراً ، ومنهم من قال : لا ينقطع ، وعليه أن يبني ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والشعبي ، ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين وأفطرت أيام الحيض ، لا ينقطع التتابع ، فإذا طهرت بنت على ما أصابت ، لأنه أمر مكتوب على النساء لا يمكنهن الاحتراز عنه . فإن عجز عن الصوم ، فهل يخرج عنه بإطعام ستين مسكيناً ؟ فيه قولان : أحدهما : يخرج كما في كفارة الظهار . والثاني : لا يخرج لأن الشرع لم يذكر له بدلاً ، فقال : { فصيام شهرين متتابعين } .
قوله تعالى : { توبة من الله } أي : جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ .
قوله تعالى : { وكان الله عليماً } . بمن قتل خطأ .
قوله تعالى : { حكيماً } . فيما حكم به عليكم . أما الكلام في بيان الدية ، فاعلم أن القتل على ثلاثة أنواع : عمد محض ، وشبه عمد ، وخطأ محض . أما المحض : فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالباً فقتله ففيه القصاص عند وجود التكافؤ ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالة . وشبه العمد : أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالباً ، بأن ضربه بعصاً خفيفة ، أو حجر صغير ضربة أو ضربتين ، فمات فلا قصاص فيه ، بل يجب فيه دية مغلظة على عاقلته ، مؤجلة إلى ثلاث سنين . والخطأ المحض : هو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه ، فلا قصاص فيه بل تجب دية مخففة على عاقلته ، مؤجلة إلى ثلاث سنين . وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : قتل العمد لا يوجب الكفارة ، لأنه كبيرة كسائر الكبائر . ودية الحر المسلم مائة من الإبل ، فإذا عدمت الإبل وجبت قيمتها من الدراهم ، أو الدنانير في قول ، وفي قول : يجب بدل مقدر منها ، وهو ألف دينار ، أو اثنا عشر ألف درهم ، لما روي عن عمر رضي الله عنه : فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل . أو ألف دينار ، أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو قول عروة بن الزبير ، والحسن البصري رضي الله عنهما . وبه قال مالك ، وذهب قوم إلى أنها مائة من الإبل ، أو ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم ، وهو قول سفيان الثوري ، وأصحاب الرأي . ودية المرأة نصف دية الرجل ، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم ، إن كان كتابياً ، وإن كان مجوسياً فخمس الدية . روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : دية اليهودي ، والنصراني أربعة آلاف درهم . ودية المجوسي ثمانمائة درهم . وهو قول سعيد بن المسيب والحسن ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه . وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم . روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو قول سفيان الثوري ، وأصحاب الرأي . وقال قوم : دية الذمي نصف دية المسلم ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وبه قال مالك ، وأحمد ، رحمهما الله . والدية في العمد المحض ، وشبه العمد مغلظة بالسن ، فيجب ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، في بطونها أولادها ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما . وبه قال عطاء ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع ، أنا الشافعي رضي الله عنه ، أنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط أو العصا مائة من الإبل مغلظة ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ) .
وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي . وأما دية الخطأ فمخففة ، وهي أخماس بالاتفاق ، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها ، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة ، وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله . وأبدل قوم ، بني اللبون ببنات المخاض ، يروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وبه قال أحمد ، وأصحاب الرأي . ودية الأطراف على هذا التقدير . ودية المرأة فيها على النصف من دية الرجل ، والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة ، وهم عصبات القاتل من الذكور ، ولا يجب على الجاني منها شيء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة .
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
هذه الصيغة من صيغ الامتناع ، أي : يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن ، أي : متعمدا ، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة ، وإنما يصدر ذلك إما من كافر ، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك ، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض "
فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله .
ولما كان قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله ، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال :
{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا ، صغيرًا أو كبيرًا ، عاقلاً أو مجنونًا ، مسلمًا أو كافرًا ، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان ب " مَنْ " في هذا الموضع ، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول : فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ " وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى ، صغيرًا أو كبيرًا ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط ، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء .
ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة ؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق ، وتمليكه منافع نفسه ، فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه ، مع أن في قوله : { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك ؛ فإن التحرير : تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له ، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير . فتأمل ذلك فإنه واضح .
وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد . { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم ، والمراد بأهله هنا هم ورثته ، فإن الورثة يرثون ما ترك ، الميت ، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
وقوله : { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط ، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت . { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي : من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم .
{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسرا بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا يفطر بينهما من غير عذر ، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض والحيض ونحوهما . وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم .
{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي : هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم ، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، في أي وقت كان وأي محل كان .
ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء ، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة ، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه ، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم ، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة ، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين ، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله .
ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة . بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك .
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة ، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم ]{[222]} ويخف عنهم{[223]} بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم ، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين .
ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 92 ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 93 )
روى المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } . . الآية ومن أشهر هذه الروايات ما جاء عن مجاهد وغيره أنها نزلت فى عياش بن أبى ربيعة ، وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه لكى يترك الإِسلام ، فأضمر عياش قتل ذلك الرجل . ثم أسلم هذا الرجل دون أن يعلم عياش بإسلامه . فلما لقيه فى يوم من الأيمان ظن عياش أن الرجل ما زال مشركا فقتله . فلما علم بإسلامه أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قتلته ولم أشعر بإسلامه فأنزل الله الآية .
والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت فى حادثة معينة إلا أن حكمها يتناول كل من قتل غيره خطأ ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
والنفى فى قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ } ليس لنفى الوقوع ، لأنه لو كان كذلك ما وقع قتل على سبيل الخطأ أبداً ، وإنما النفى بمعنى النهى وعدم الجواز .
وقد أشار القرطبى إلى ذلك بقوله : قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } هذه آية من أمهات الأحكام . والمعنى ما ينبغى لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ، فقوله : { وَمَا كَانَ } ليس على النفى وإنما هو على التحريم والنهى كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } ولو كانت على النفى لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط ، لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده فهو كقوله - تعالى - { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا . ثم استثنى استثناء منقطعاً ليس من الأول وهو الذى يكون فيه " إلا " لمعنى لكن . والتقدير : ما كان له أن يقتله البتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا .
والخطأ : اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد ، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإِخطاء . ويقال لمن أراد شيئاً ففعل غيره : أخطأ . ولمن فعل غير الصواب : أخطأ .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت . بم انتصب خطأ ؟ قلت : بأنه مفعول له . أى ما ينبغى له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده . ويجوز أن يكون حالا بمعنى : لا يقتله فى حال من الأحوال إلا فى حال الخطأ . وأن يكون صفة للمصدر أى : إلا قتلا خطأ . والمعنى ، أن من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البته ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد ، بأن يرمى كافرا فيصيب مسلما . أو يرمى شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم .
ثم بين - سبحانه - حكم القتل الخطأ فقال : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } .
قوله { فَتَحْرِيرُ } ، التحرير : الإِعتاق وهو تفعيل من الحرية . أى جعل الرقبة حرة . وهو مبتدأ محذوف الخبر أى : فعليه تحرير رقبة مؤمنة .
وقوله : { وَدِيَةٌ } الدية ما يعطى عوضا من دم القتيل إلى وليه . وهى مأخوذة من الودى كالعدة من الوعد . يقال : ودى القاتل القتيل يديه دية إذا أعطى وليه المال الذى هو بدل النفس . وسمى المال دية تسمية بالمصدر .
والمعنى : أن المؤمن لا يسوغ له ولا يليق به أن يقتل أخاه المؤمن ، لأن ذلك محرما تحريماً قاطعاً ، لكن إن وقع منه القتل له فى سبيل الخطأ فإن دم القتيل لا يذهب هدرا ، بل على من قتل أخاه المؤمن خطأ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أى : إعتاق نفس مؤمنة : وعليه كذلك { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } أى : مؤداة إلى ورثة القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم . وقوله { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أى إلا أن يتصدق أهل القتيل بهذه الدية على القاتل ، بأن يتنازلوا عنها له على سبيل العفو والصفح .
وعبر - سبحانه - عن العتق بالتحرير فى قوله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } للاشعار بأن الحرية للعبيد مقصد من مقاصد الإِسلام ، وأن شريعته قد أوجبت على أتباعها أن يعتقوا الأرقاء إذا ما وقعوا فى بعض الأخطاء حتى يتحرر أكبر عدد من الرقاب .
والتعبير عن النفس بالرقبة من باب التعبير عن الكل بالجزء . وكان التعبير بذلك للاشارة إلى أن الرق غل معنوى فى الرقاب ، وأن المؤمن الصادق فى إيمانه هو الذى يبذل قصارى جهده فى فك الرقاب من قيدها .
وقيد الرقبة المحررة بأن تكون مؤمنة لتخرج الكافرة ، إذ الإِسلام يحرص على تحرير الأرقاء المؤمنين دون الكافرين .
قال ابن كثير : وجمهور الفقهاء على أن الرقبة المؤمنة تجزئ سواء أكانت صغيرة أم كبيرة فقد أخرج الإِمام أحمد " عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال : يا رسول الله ، إن على عتق رقبة مؤمنة . فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ قالت : نعم . قال : أتشهدين أنى رسول الله ؟ قالت : نعم قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت : نعم . قال : أعقتها " .
ويرى بعضهم أنه لا تجزئ إلا الرقبة المؤمنة التى صلت وعقلت الإِيمان ، أما الصغيرة فإنها لا تجزئ .
وقوله { وَدِيَةٌ } معطوف على " فتحرير " وقوله { مُّسَلَّمَةٌ } صفة لدية . وقوله { إلى أَهْلِهِ } متعلقة بمسلمة .
قال القرطبى ما ملخصه : لوم يعين الله فى كتابه ما يعطى فى الدية ، وإنما فى الآية إيجاب الدية مطلقا ، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل ، وإنما أخذ ذلك من السنة .
والعاقلة : قرابات الرجل من جهة أبيه وهم عصبته . .
وثد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإِبل .
ووداها صلى الله عليه وسلم فى عبد الله بن سهل المقتول بخبير فكان ذلك بيانا على لسان النبى صلى الله عليه وسلم لمجمل الكتاب واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإِبل ، فقالت طائفة : على أهل الذهب ألف دينار . وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم .
وقد ثبتت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة . وأجمع أهل العلم على القول به .
ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل . فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها ، وما فى بطنها . فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة : عبد وأمة . وقضى بدية المرأة على عاقلتها .
قالوا : وإنما كانت دية القتل الخطأ على العاقلة ، لأن القاتل لو دفعها لأوشكت أن تأتى على جميع ماله ، وليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة وتعاونها . وإذا كان القاتل فقيرا وأسرته فقيرة ، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين ، حتى لا يهدر دم القتيل .
قال القاسمى : تجب الدية على كل عاقلة القاتل . وهم عصبته غير الأصول والفروع . لأنه لما عفى عن القاتل فلا وجه للأخذ منه . وأصوله وفورعه أجزاؤه فالأخذ منهم أخذ منه . ولا وجه لإِهدار دم المؤمن . فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهى العصبية ، لأن الغرم بالغنم . فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا فقراء فعلى بيت المال .
والتعبير عن أداء الدين بقوله { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } يومئ إلى وجوب حسن الأداء بأن تسلم هذه الدية إلى أسرة القتيل بكل سماحة ولطف جبرا لخاطرها عما أصابها .
والمراد بقوله { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أى : إلا أن يتبرع بها أولياء المقتول على سبيل العفو والصفح .
وعبر عن ذلك بقوله { يَصَّدَّقُواْ } للإِشارة إلى أن تبرعهم هذا مرغوب فيه وأنه بمنزلة الصدقة التى لهم ثوابها الجزيل عند الله - تعالى - لا سيما إذا كان أولياء القاتل وعصبته يشق عليهم أداؤها فيتركها أولياء القتيل رأفة بأولياء القاتل وشفقة عليهم ، وفى الحديث الشريف " كل معروف صدقة " .
ثم بين - سبحانه - حكم القتل الخطأ لمؤمن ينتمى إلى الأعداء فقال { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } .
أى : فإن كان المقتول خطأ { مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } أى محاربين لكم ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أى وكان المقتول مؤمنا ولم يعلم به القاتل ، لكونه بين أظهر قومه الكفار ولم يفارقهم ، أو أتاهم بعد أن فارقهم لأمر من الأمور ، فعلى القاتل فى هذه الحالة { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } كفارة عن هذا القتل الخطأ ، وليس عليه دية ، لأن أولياء القتيل من الكفار ولا توارث بين المؤمن والكفار ، ولأن دفع الدية إليهم يؤدى إلى تقويتهم علينا ومن غير المعقول أن ندفع لأعدائنا ما يتقوون به علينا .
روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال : كان الرجل يأتى النبى صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون . فيصيبه المسلمون فى سرية أو غزوة . فيعتق الذى يصيبه رقبة .
ثم بين - سبحانه - حكم القتل الخطأ إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .
أى : وإن كان المقتول خطأ { مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أى : من قوم بينكم وبينهم - أيها المؤمنون - عهد من هدنة أو أمان وهم على دنيهم وأنتم على دينكم ، فعلى القاتل فى هذه الحالة دية تدفعها عاقلته إلى أهل القتيل ، لأن حكمهم كحكم المسلمين ، وعليه كذلك { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } لتكون كفارة له عند الله ، وقدم الدية هنا على تحرير الرقبة على العكس مما جاء فى صدر الآية ، للإِشعار بوجوب المسارعة إلى تسليم الدية حتى لا يتردد القاتل فى دفعها إلى غير المسلمين الذين بينهم وبين المسلمين عهد يمنع عدم الاعتداء .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جعل الحكم فى قتل المعاهد كالحكم فى قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة ، وبعضهم يرى أن المراد بالمقتول خطأ هنا المسلم الذى هو فى قوم معاهدين وأن الدية لا تدفع لهؤلاء القوم فيكون معنى الآية : وإن كان أى المقتول المؤمن { مِن قَوْمٍ } كفار بينكم وبينهم ميثاق ، فعلى قاتله دية { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } من أهل الإِسلام إن وجدوا ، ولا تدفع إلى ذوى قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين ، اذ لا يرث الكافر المؤمن .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه لو كان المراد بالمقتول خطأ هنا القتيل المسلم لكان مكررا ولما كان هناك معنى لإِفراده أذ حكمه يكون داخلا فى قوله - تعالى - فى صدر الآية { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } . فلما أفرده - سبحانه - بالذكر علمنا أن المقصود بالتقيل هنا من قتل خطأ من قوم كفار بيننا وبينهم ميثاق سواء أكان المقتول على دينننا أم على دينهم .
وقد ذكر صاحب الكشاف هذا الوجه ولم يذكر سواه فقال : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ } - أى : وإن كان المقتول من قوم - كفره لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابين فحكمه حكم مسلم من مسلمين . ومن العلماء أيضا من يرى أن دية المسلم والكافر سواء ومنهم من يرى غير ذلك .
وقد أشار الإِمام ابن كثير إلى هذين الرأيين بقوله : قوله - تعالى - { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } . الآية ، أى : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم .
فإن كان مؤمنا دفية كامل وكذا إن كان كفارا أيضا عند طائفة من العلماء . وقيل يجب فى الكافر نصف دية المسلم وقيل ثلثها كما هو مفصل فى كتب الأحكام .
ثم يبين - سبحانه - الحكم عند عدم استطاعة إعتاق الرقبة فقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } .
أى : فمن لم يجد رقبه مؤمنة يعتقها فعليه فى هذه الحالة صيام شهرين متواصلين فى أيامهما ، لا يفرق بنيهم فطر ، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين ، إلا أن يكون الفطر بسبب حيض أو نفاس أو مرض يتعذر معه الصوم .
وقوله - { تَوْبَةً مِّنَ الله } مفعول لأجله والتقدير : أى شرع لكم ذلك توبة منه أى قبولا لها روحمة بكم . من : تاب الله على فلان إذا قبل توبته .
وهذه التوبة ليست من إثم القتل الخطأ ، لأن الإِثم مرفوع عن المخطئ كما فى الحديث الشريف " رفع من أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
وإنما التوبة هنا من التقصير وقلة التثبت والتحقق ، ولكى يكون المسلم يعد ذلك متذكراً فلا يقع منه فى المستقبل ما وقع منه فى الماضى ، ولهذا قال الإِمام الزيلعى :
" وبهذا النوع من القتل أى القتل الخطأ - لا يأثم إثم القتل ، وإنما يأثم إثم ترك التحرز والمبالغة فى التثبت ، لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذى أحدا . فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك الحرز " .
وقوله { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } تذييل قصد به زجر الناس عن اتباع الهوى وعن مخالفة شريعته .
أى : وكان الله وما زال عليما بالنفوس وخباياها وحركاتها وبكل شئ فى هذا الكون : حكيما فى كل ما شرع وقضى . وسيحاسب الناس على أقوالهم . وأعمالهم يوم القيامة . وسيجازيهم بما يستحقون من خير أو من شر .
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد بينت أن المؤمن إذا قتل على سبيل الخطأ أخاه المؤمن أو قتل رجلا من قوم كافرين ولكن بيننا وبينهم ميثاق أمان فعليه فى كل حالة من هاتين الحالتين عتق رقبة ودية . أما إذا قتل المؤمن رجلا مؤمنا ولكن كان من قوم كافرين محاربين لنا وليس بيننا وبينهم عهد ولا ميثاق فعلى القاتل تحرير رقبة فقط . فإن لم يستطع تحرير رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله . بهذه الأحكام الحكيمة تربى النفوس على الاحتراس والاحتياط وأخذ الحذر ، وتصان الدماء عن أن تذهب هدرا ، وتعوض أسرة القتيل عن فقيدها بما يخفف آلامها ، ويجير خاطرها ، وتعوض الجماعة الإِسلامية بتحرير رقبة مؤمنة تعمل لصالح الجماعة بحرية وانطلاق بعد أن كانت تعمل خدمة سيدها فحسب .
قال جمهور المفسرين : معنى هذه الآية : وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير لكن الخطأ قد يقع .
وهذا كقول الشاعر [ الهذلي ] : [ البسيط ]
أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ *** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ{[4188]}
قال القاضي أبو محمد : سقام اسم واد ، والغرف شجر يدبغ بلحائه ، وكما قال جرير : [ الطويل ]
مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيداً وَلَمْ تَطَأْ . . . على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ{[4189]}
وفي هذا الشاهد نظر ، ويتجه في معنى الآية وجه آخر ، وهو أن تقدر { كان } بمعنى استقر ووجد ، كأنه قال ، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ { لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً } ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً ، إعظاماً العمد وبشاعة شأنه ، كما تقول : ما كان لك مقصوراً غير مهموز{[4190]} ، وقرأ الحسن والأعمش مهموزاً ممدوداً{[4191]} ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة{[4192]} ، وذلك أنه كان يعذبه بمكة ، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجراً فلقيه عياش بالحرة ، فظنه على كفره فقتله ، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قم فحرر »{[4193]} .
وقال أبو زيد : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنماً وهو يتشهد فقتله وساق غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية{[4194]} .
وقيل : نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد ، وقيل غير هذا ، والله أعلم وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً } الآية ، بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل ، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى ، يربطها عدم القصد ، قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : «الرقبة المؤمنة » هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان ، ولا يجزىء في ذلك الصغير ، وقال عطاء بن أبي رباح : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين ، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس : يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه ، قال مالك : ومن صلى وصام أحب إليّ ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان النقصان يسيراً تتفق له معه المعيشة والتحرف ، كالعرج ونحوه ففيه قولان ، و { مسلمة } معناه مؤادة مدفوعة ، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية ، و { إلا أن يصدقوا } يريد أولياء القتيل ، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا » وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا » بالتاء على المخاطبة للحاضر ، وقرأ نبيح العنزي{[4195]} «تصدقوا » بالتاء وتخفيف الصاد ، و«الدية » مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم ، وعند آخرين على الناس كلهم ، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة ، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة ، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت ، واختلف في المائة من الإبل ، فقال علي بن أبي طالب : هي مربعة ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون{[4196]} ، وقال عبد الله بن مسعود : مخمسة ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ذكراً ، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب ، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة . ومن الغنم ألفي شاة ، ومن الحلل مائة حلة ، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود{[4197]} ، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب ، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل ، فمضى القول على ذلك ، وأما الذهب فهي ألف دينار ، قررها عمر ومشى الناس عليها ، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفاً ، وبه قال مالك ، وجماعة تقول : عشرة آلاف درهم . وقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } الآية . المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم ، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً ، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم ، فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر ، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية ، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين ، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها ، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية فيه ، واحتجوا بقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا }{[4198]} وقالت فرقة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، كفارته التحرير ولا دية فيه ، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقائل المقالة الأولى يقول : إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة ، وقوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية ، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن » وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضاً .
المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير ، واختلف على هذا في دية المعاهد ، فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال مالك وأصحابه : ديته على نصف دية المسلم ، وقال الشافعي وأبو ثور : ديته على ثلث دية المسلم ، وقوله تعالى : { فمن لم يجد } الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين » متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر{[4199]} ، وقال مكي عن الشعبي : «صيام الشهرين » يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها ، وهذا القول وهم{[4200]} ، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل ، والطبري حكى القول عن مسروق ، و { توبة } نصب على المصدر معناه رجوعاً بكم إلى التيسير والتسهيل .
انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض ، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض : من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض .
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه : أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم ، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتلِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشىء عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً . وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان ، والحادث المشار إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } [ النساء : 94 ] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك ، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل .
هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم ، وجعله في حَيّز ما لا يكون ، فقال : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فجاء بصيغة المبالغة في النفي ، وهي صيغة الجحود ، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ ، أو أن يَقتُل قَتْلاً من القتل إلاّ قَتْل الخطأ ، فكان الكلام حصراً وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمناً فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن ، على نحو « ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها ، غير مراد بها التشريع ، بل هي كالمقدّمة للتشريع ، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلاً غيرَ خطإ ، وتكون خبرية لفظاً ومعنًى ، ويكون الاستثناء حقيقيّاً من عموم الأحوال ، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمناً في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد ، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية .
ولك أن تجعل قوله : { وما كان لمؤمن } خبراً مراداً به النهي ، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي ، وتجعل قوله : { إلاّ خطئاً } ترشيحاً للمجاز : على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل ، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي ، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي ، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذوناً فيه للمؤمن ، فهو قتل الخطأ ، وقد عُلم أنّ المخطىء لا يأتِي فعلَه قاصداً امتثالاً ولا عصياناً ، فرجع الكلام إلى معنى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً قتلاً تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبداً ، فتكون الجملة مبدأ التشريع ، وما بعدها كالتفصيل لها ؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله : { إلاّ خطئاً } .
وذهب المفسّرون إلى أنّ { ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } مراد به النهي ، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى ( لَكِن ) فراراً من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمناً خطأ ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا .
وإنّما جيء بالقيد في قوله : { ومن قتل مؤمناً خَطَئاً } لأنّ قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ ، فيستغنى عن تقييده به .
روى الطبري ، والواحدي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ عيّاشاً بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخاً أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه ، فأتوه بالمدينة وقالوا له : إنّ أمّك أقسمت أن لا يُظلِهَّا بيت حتّى تراك ، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع ، وأعطوه موثقاً من الله أن لا يُهجوه ، ولا يحولوا بينه وبين دِينه ، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه ، ودخلوا به مكة ، وقالوا له « لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به » . وكان الحارثُ بنُ زيد يجلده ويعذّبه ، فقال عيّاش للحارث « والله لا ألقاك خالياً إلاّ قتلتك » فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقُباء ، وكان الحارثُ قد أسلم ولم يَعلم عياش بإسلامه ، فضربه عياشٌ فقتله ، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة .
وفي ابن عطية : قيل نزلت في اليمان ، والد حذيفة بن اليمان ، حين قتله المسلمون يوم أحُد خطأ .
وفي رواية للطبري : أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة ، فعدل إلى شعب فوجد رَجلاً في غنم له ، فحمَل عليه أبو الدرداء بالسيف ، فقال الرجل « لا إله إلاّ الله » فضربَه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية ، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت الآية .
وقوله : { فتحرير رقبة } الفاء رابطة لِجواب الشرط ، و ( تحرير ) مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب : لظهور أنّ المعنى : فحكمهُ أو فشأنه تحرير رقبة كقوله : { فصبر جميل } [ يوسف : 18 ] . والتحرير تفعيل من الحُريّة ، أي جعل الرقبة حرّة . والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ ، كما يقولون ، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير .
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر ، وأقيمت عليها ثروات كثيرة ، وكانت أسبابها متكاثرة : وهي الأسر في الحروب ، والتصيير في الديوان ، والتخطّف في الغارات ، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ ، والرهائن في الخوف ، والتداين .
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر ، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال ، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين ، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر ، قال النابغة :
حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي *** ولا نِسْوَتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا
ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة ، ومنها مندوب إليها . ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا . وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة ، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل ، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه ، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف ، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة ، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة . وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى : { وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً } في سورة المائدة ( 20 ) ، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم .
وثانيهما الدية . والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما ، كما سيأتي .
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن . وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة ، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها . قال الحَماسي :
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فديـة *** لَسُقْنَا لهـــم سَيْباً من المال مُفْعَما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ *** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه . قال زهير :
تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت *** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم
وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية ، قيل : إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم ، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل ، فجرت في قريش كذلك ، ثمّ تبعهم العرب ، وقيل : أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني ، وكانت ديَة المَلِك ألفاً من الإبل ، ودية السادة مائتين من الإبل ، وديّة الحليف نصف دية الصّميم . وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن . إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة .
وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مُخمسَّة أخماساً : عشرون حقّة ، وعشرون جَذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون .
ودية العمد ، إذا رضي أولياء القتيل بالدية ، مربَّعة : خمسٌ وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل . وتغلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد ، إذا قتل ابنَه خطأ : ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة ، أي نوقاً في بطونها أجنّتُها . وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً فجعلت على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الديّة على أهل البَقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الغنم ألفيَ شاةٍ . وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحُلل ، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن ، مائة حلّة . والحلّة ثوبان من نوع واحد .
ومعيار تقدير الديات ، باختلاف الأعصار والأقطار ، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة . ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل . ودية الكتابي على النصف من دية المسلم . ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي . وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم ، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلةِ القاتل .
والدية بتخفيف الياء مصدر وَدَي ، أي أعطى ، مثل رمَى ، ومصدره وَدْي مثل وعد ، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً ، لأنّ الواو ثقيلة ، كما حذفت في عِدّة ، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شِيَة من الوشي .
وأشار قوله : { مسلَّمَةٌ إلى أهله } إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل . وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل ، فإنّ الأهل هو القريب ، والأحقّ بها الأقرب . وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلاّ أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته . وهي بمنزلة تعويض المتلفات ، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبّب القاتلُ في قتله ، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية ، ولذلك قالوا : تَكايُل الدّماء ، وقالوا : هُما بَوَاء ، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم .
وجَعَل عفوَ أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيباً في العفو .
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة ، وذلك تقرير لِما كان عليه الأمر قبل الإسلام .
والعاقلة : القَرابة من القبيلة . تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب .
وقوله : { فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن } الآية أي إن كان القتيل مؤمناً وكان أهله كفاراً ، بينَهم وبين المسلمين عداوة ، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم ، لأنّ الدية : إذا اعتبرناها جبَراً لأولياء الدم ، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم ، وإذا اعتبرناها عِوضاً عن منافع قتيلهم ، مثل قيم المتلفات ، يَكون منعُها من الكفّار ؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم ، ولأنّا لا نعْطيهم مالَنا يَتقوون به علينا .
وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ، إن كان القتيل المؤمن باقياً في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّاراً ، فقال ابن عبّاس ، ومالك ، وأبو حنيفة : لا تسقط عن القاتل ديته ، وتُدفع لبيت مال المسلمين . وقال الشافعي ، والأوزاعي ، والثَّوري : تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار . وظاهر قوله تعالى : { وإن كان من قوم عدوّ } أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته ، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها .
وأخبر عن { قوم } بلفظ { عدوّ } وهو مفرد ، لأنّ فَعولاً بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفرداً مذكَّراً غيرَ مطابق لموصوفه ، كقوله : { إنّ الكافرين كانُوا لكم عدوّاً مبيناً } [ النساء : 101 ] { لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] { وكذلك جعلنا لكلّ نبيء عدوّاً شياطين الأنس } [ الأنعام : 112 ] ، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عَدوّة . وفي كلام عمر بن الخطاب في « صحيح البخاري » أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه « يا عدوّات أنفُسِهِنُّ » . ويجمع بكثرة على أعداء ، قال تعالى : { ويوم نحشر أعداء الله إلى النار } [ فصلت : 19 ] .
وقوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي إن كان القتيل المؤمن . فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق ، أيّ عهدٌ من أهل الكفر ، ديةَ قتيلهم المؤمننِ اعتداداً بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل ، وليست مالاً موروثاً عن القاتل ، إذ لا يرث الكافر المسلم ، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارثٌ مؤمنٌ في قوم معاهدَين ، أو يكون المقتول معاهداً لا مؤمناً ، بناء على أنّ الضمير في « كان » عائد على القتيل بدون وصف الإيمان ، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قَتل مؤمناً خطأ . ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله : { وهو مؤمن } لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله : { من قوم عدوَ لكم } أن يَظُنَ أحد أنّه أيضاً عدوّ لنا في الدّين . وشرط كون القتيل مؤمناً في هذا لحكم مدلول بحَمْل مطلقه هنا على المقيَّد في قوله هنالك { وهو مؤمن } ، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله : { ومن قَتَل مؤمناً خطئاً } ، وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة .
وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه ، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهَد ، يُقتل خطأ فتجب الدية وتحريرُ رقبة ، وهو قول ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، ولكنّهم قالوا : إنّ هذا كان حكماً في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل ، حتّى يسلموا أو يؤذَنوا بحَرب ، وإنّ هذَا الحكم نسِخ .
وقوله : { فصيام شهرين متتابعين } وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما . لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين .
وقوله : « توبة من الله » مفعول لأجله على تقدير : شرع الله الصيام توبة منه . والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب ( من ) ، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } [ النساء : 17 ] في هذه السورة ، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم . ولك أن تجعل { توبة } مفعولاً لأجله راجعاً إلى تحرير الرقبة والدية وبَدلِهِما ، وهو الصيام ، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل ، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبهُ على أسباب الخطأ ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم . أو هو حال من « صيام » ، أي سببَ توبة ، فهو حال مجازية عقلية .