{ لتركبن طبقا عن طبق } قرأ أهل مكة وحمزة والكسائي :{ لتركبن } بفتح الباء ، يعني لتركبن يا محمد . قال الشعبي ومجاهد : سماء بعد سماء . قال الكلبي : يعني تصعد فيها . ويجوز أن يكون درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى والرفعة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن النضر ، أنبأنا هيثم ، أنبأنا أبو البشر عن مجاهد قال قال ابن عباس : " { لتركبن طبقاً عن طبق } حالاً بعد حال ، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم " . وقيل : أراد به السماء تتغير لوناً بعد لون ، فتصير تارة كالدهان وتارة كالمهل ، وتنشق بالغمام مرة وتطوى أخرى . وقرأ الآخرون بضم الباء ، لأن المعنى بالناس أشبه ، لأنه ذكر من قبل : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وشماله وذكر من بعد : { فما لهم لا يؤمنون } وأراد : لتركبن حالاً بعد حال ، وأمراً بعد أمر في موقف القيامة ، يعني : الأحوال تنقلب بهم ، فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا . وعن بمعنى بعد . وقال مقاتل : أي الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة . قال عطاء : مرة فقيراً ومرة غنياً . وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس : يعني الشدائد وأهوال الموت ، ثم البعث ثم العرض . وقال عكرمة : حالاً بعد حال ، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ . وقال أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، أنبأنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتعبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراعً ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " .
{ لَتَرْكَبُنَّ } [ أي : ] أيها الناس { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح ، ثم يكون وليدًا وطفلًا ، ثم مميزًا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله ، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم ،
وقوله - سبحانه - { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } جواب القسم - كما سبق أن أشرنا - .
والمراد بالركوب : الملاقاة والمعاناة ، والخطاب للناس ، والطبق جمع طبقة ، وهى الشئ المساوى لشئ آخر ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتلاقن - أيها الناس - أحوالا بعد أحوال ، هى طبقات ومراتب فى الشدة ، بعضها أصعب من بعض ، وهى الموت ، وما يكون بعده من حساب وجزاء يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } خطاب لجنس الإِنسان المنادى أولا ، باعتبار شموله لأفراده ، والمراد بالركوب : الملاقاة ، والطبق فى الأصل ما طابق غيره مطلقا .
وخص فى العرف بالحال المطابقة لغيرها . . و " عن " للمجاوزة ، أو بمعنى " بعد " والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة أو حالا من فاعل لتركبن ، والظاهر أن " طبقا " منصوب على المفعولية ، أى : لتلاقن حالا كائنة بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها فى الشدة والهول . . منها ما هو فى الدنيا ، ومنها ما هو فى الآخرة .
وقرأ الأخوان - حمزة الكسوائى - وابن كثير { لتركبن } بفتح الباء - على أنه خطاب للإِنسان - أيضا - ، ولكن باعتبار اللفظ ، لا باعتبار الشمول .
وأخرج البخارى عن ابن عباس أنه خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، أى : لتركبن - أيها الرسول الكريم - أحوال شريفة بعد أخرى من مراتب القرب . أو مراتب من الشدة بعد مراتب من الشدة ، ثم تكون العاقبة لك . .
لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدة وهو لما طابق غيره فقيل للحال المطابقة أو مراتب من الشدة بعد المراتب هي الموت ومواطن القيامة وأهوالها أو هي وما قبلها من الدواهي على أنه جمع طبقة وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لتركبن بالفتح على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ أو الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى لتركبن حالا شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة أو طبقا من أطباق السماء بعد طبق ليلة المعراج وبالكسر على خطاب النفس وبالياء على الغيبة و عن طبق صفة ل طبقا أو حال من الضمير بمعنى مجاوز ال طبق أو مجاوزين له .
وجملة : { لتركبن طبقاً عن طبق } نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها .
فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي ، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني ، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني .
فأما فعل { لتركبن } فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ ، منها الغلَب والمتابعة ، والسلوك ، والاقتحام ، والملازمة ، والرفعة .
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ .
وأما كلمة { طبق } فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره ، وظاهر كلام « الأساس » و« الصحاح » أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس ، وظاهر « الكشاف » أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال ، يقال : طابَق النعل النعل .
وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق . وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة .
ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به ، ومنه قولهم في المثل : « وافَقَ شنّ طبَقه » أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه . ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه .
ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها ، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء .
ويطلق اسمَ جمععٍ لطبقة : وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه . وهذا من المجاز يقال : أتانا طَبق من الناس ، أي جماعة .
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى { عن } من مجاوزة وهي معنى حقيقي ، أو من مرادفةِ كلمة ( بعد ) وهو معنى مجازي .
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال ، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] الآيات . ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد ، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل . فتتركب من هذه المحامل معاننٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية .
فقيل المعنى : لتركُبن حالاً بعد حال ، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين « طبق » في الموضعين للتعظيم والتهويل و { عن } بمعنى ( بعد ) والبعدية اعتبارية ، وهي بعدية ارتقاء ، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول ، كقوله تعالى : { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] . وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها .
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء ، وحشر ، وسعادة أو شقاوة ، ونعيم أو جحيم ، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء ، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال .
وقيل : { لتركبن } منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة ، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة ، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، فالتنوين فيهما للتنويع .
وقيل : من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه ، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله ، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون { عن } على هذا على حقيقتها للمجاوزة ، والتنوين للتعظيم .
ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق ، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى : { إلى ربك يومئذ المساق } [ القيامة : 30 ] وهذا تهديد لمنكريه ، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة ، أي لتَتَّبِعُنَّ . وحذف مفعول : « تركبن » بتقدير : ليَتبعن بعضُكم بعضاً ، أي في تصميمكم على إنكار البعث . ودليل المحذوف هو قوله : { طبقاً عن طبق } ويَكون { طبقاً } مفعولاً به وانتصاب { طبقاً } إما على الحال من ضمير { تركبُنّ } . وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية .
وموقع { عن طبق } موقع النعت ل { طبقاً } .
ومعنى { عن } إما المجاوزة ، وإما مرادفة معنى ( بعد ) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة ، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم : « ورثوا المجد كابراً عن كابر » غيَّر حرف ( عن ) إلى كلمة ( بعد ) فقال :
لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { لتركبن } بضم الموحدة على خطاب الناس . وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] . وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء ، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل . وقيل : خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : قيل : هي عِدة بالنَّصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك ( أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين ) فيكون بشارة للمسلمين ، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة : { إنه ظن أن لن يحور } [ الانشقاق : 14 ] وجملة : { فما لهم لا يؤمنون } [ الانشقاق : 20 ] . وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين .