قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } هذا جواب القسم .
وقرأ الأخوان ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومسروق ، وأبو وائل ، ومجاهدٌ والنخعيُّ ، والشعبيُّ ، وابن جبيرٍ : بفتح الباء على الخطاب للواحد .
والباقون{[59704]} : بضمها على خطاب الجمع .
فالقراءة الأولى : رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى : { يا أيها الإنسان } [ الانشقاق : 6 ] ، وإما خطاب غيره .
فقيل : خطابٌ للرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم ، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين ، من قولهم : النَّاس طبقات ولتركبن سماء [ بعد سماء ]{[59705]} ، ودرجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى .
وقيل : التاء للتأنيث ، والفعل مسندٌ لضمير السماء .
قال ابن مسعود : لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان ، وتنفطر وتنشق{[59706]} .
والقراءة الثانية : رُوي فيها معنى الإنسان ؛ إذ المراد به : الجنس ، أي : لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة ، ثم مضغة ، ثم حياً ، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً .
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه ، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره ، وقوله بعد ذلك «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » أي : لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة ، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب ، والاختلاف على الأنبياء .
وقال مقاتلٌ : يعني الموت ثم الحياة{[59707]} .
وعن ابن عباسٍ : يعني : الشدائد والأهوال والموت ، ثم البعث ، ثم العرض{[59708]} .
وقال عكرمة : رضيع ، ثم فطيم [ ثم غلام ، ] {[59709]} ثم شابٌّ ، ثم شيخ{[59710]} .
قال ابن الخطيب{[59711]} : ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم بنصرهم ، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 186 ] .
وقرأ عمرُ - رضي الله عنه{[59712]} - : «ليركبُنَّ » بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار .
وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس{[59713]} - رضي الله عنهما - بالغيبة ، وفتح الباء ، أي : ليركبنَّ الإنسان .
وقيل : ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ .
وقرأ{[59714]} عبد الله وابنُ عباسٍ : «لتركبُنَّ » بكسر حرف المضارعة ، وقد تقدم في «الفاتحة » .
وقرأ بعضهم{[59715]} : بفتح المضارعة وكسر الباء ، على إسناد الفعل للنفس ، أي : لتركبن يا نفس .
قوله : «طبقاً » : مفعول به أو حال .
والطبق قال الزمخشريُّ{[59716]} : الطَّبق : ما طابق غيره ، يقال : ما هذا بطبق كذا : أي : لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء : الطَّبقُ ، وأطباقُ الثَّرى ما تطابق منه ، ثم قيل للحال المُطابقَة لغيرها طبق ، ومنه قوله - عز وجل- : { طَبَقاً عَن طَبَقٍ } أي : حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، ويجوز أن يكون جمع طبقة ، وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقاتٍ ، ومنه طبقات الظهر لفقاره ، الواحدة : طبقة على معنى : لتركبن أحوالاً بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها أرفع من بعض وهي الموت ، وما بعده من مواطن القيامة انتهى .
وقيل : المعنى : لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة ؛ ومنه قول العباس فيه صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
5147- تُنقَلُ مِنْ صالبٍ إلى رحِمٍ *** وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ{[59717]}
فعلى هذا التفسير ، يكون «طبقاً » حالاً ، كأنه قيل : أمة بعد أمة .
5148- إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ *** وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبقٍ{[59718]}
فيحتمل الأمرين ، أي : ساقني من حالة إلى أخرى ، أو ساقني من أمَّة ناس إلى أمَّة ناسٍ آخرين ، ويكون نصب «طبقاً » على المعنيين على التشبيه بالظرف أو الحال ، أي : متنقلاً ، والطبقُ أيضاً : ما طابق الشيء أي : ساواه : [ ومنه دلالة المطابقة .
5149- *** ديمة هطلاً{[59719]} ***
والطبق من الجراد أي الجماعة ]{[59720]} .
قوله : «عَنْ طَبقٍ » : في «عن » هذه وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل «تركبن » .
والثاني : أنَّها صفة ل «طبقاً » .
وقال الزمخشري{[59721]} : فإن قلت : ما محل «عن طبق » ؟ قلت : النصب على أنه صفة ل «طبقاً » ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبقٍ ، [ أو حال من الضمير في «لتركبن » ، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ ، أو مجاوراً ]{[59722]} ، أو مجاورة على حسب القراءة .
وقال أبو البقاء{[59723]} : و«عن » بمعنى : «بعد » ؛ قال : [ الكامل ]
5150- مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ *** حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحدِ{[59724]}
لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء ، يكون الثاني بعد الأول فصلحت «بعد » و «عن » للمجاوزة ، والصحيح أنها على بابها ، وهي صفة ، أي : طبقاً حاصلاً عن طبق ، أي : حالاً عن حالٍ . وقيل : جيلاً عن جيل . انتهى .
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به ، هل هو الحال ، أو الجيل ، أو الأمة كما تقدم نقله ؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به ، بل حالاً ، كما تقدم ، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به ، وفيه نظر ، لما تقدم من استحالته ، يعني إذ يصير التقدير : لتركبن طبقة أمَّةٍ عن أمَّةٍ ، فتكون الأمة مركوبة لهم ، وإن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف ، أي : لتركبن سنن ، أو طريقة طبق بعد طبق .
هذا أدلُّ على «حدوث العالم » وإثبات الصانع .
قالت : الحكماء : من كان اليوم على حاله ، فليعلم أن تدبيره إلى سواه .
وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانعاً ؟ فقال : تحويل الحالات ، وعجز القوَّة ، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.