قوله تعالى : { هو الذي يسيركم } ، يجريكم ويحملكم ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر : ينشركم بالنون والشين من الشر وهو البسط والبث ، { في البر } ، على ظهور الدواب ، { و } في { البحر } ، على الفلك ، { حتى إذا كنتم في الفلك } ، أي : في السفن ، تكون واحدا وجمعا { وجرين بهم } ، يعني : جرت السفن بالناس ، رجع من الخطاب إلى الخبر ، { بريح طيبة } لينة ، { وفرحوا بها } ، أي : بالريح ، { جاءتها ريح } ، أي : جاءت الفلك ريح ، { عاصف } ، شديدة الهبوب ، ولم يقل ريح عاصفة ، لاختصاص الريح بالعصوف . وقيل : الريح تذكر وتؤنث . { وجاءهم } ، يعني : ركبان السفينة ، " الموج " ، وهو حركة الماء واختلاطه ، { من كل مكان وظنوا } ، أيقنوا { أنهم أحيط بهم } ، دنوا من الهلكة ، أي : أحاط بهم الهلاك ، { دعوا الله مخلصين له الدين } ، أي : أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى الله . وقالوا { لئن أنجيتنا } ، يا ربنا ، { من هذه } ، الريح العاصف ، { لنكونن من الشاكرين } ، لك بالإيمان والطاعة .
{ 22 - 23 ْ } { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }
لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء ، واليسر بعد العسر ، ذكر حالة ، تؤيد ذلك ، وهي حالهم في البحر عند اشتداده ، والخوف من عواقبه ، فقال : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ْ } بما يسر لكم من الأسباب المسيرة{[395]} لكم فيها ، وهداكم إليها .
{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ْ } أي : السفن البحرية { وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ْ } موافقة لما يهوونه ، من غير انزعاج ولا مشقة .
{ وَفَرِحُوا بِهَا ْ } واطمأنوا إليها ، فبينما هم كذلك ، إذ { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ْ } شديدة الهبوب { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ْ } أي : عرفوا أنه الهلاك ، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين ، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده ، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام ، فقالوا : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ْ }
ثم ساق - سبحانه - مشهدا حياً . تراه العيون ، وتهتز له القلوب ، ويجعل المشاعر تتجه إلى الله وحده بالدعاء فقال - تعالى - { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ وفى البر والبحر . . . } .
والسير معناه : الانتقال من مكان إلى آخر . والتسيير معناه : جعل الإِنسان أو الحيوان أو غيرهما يسير بذاته ، أو بواسطة دابة أو سفينة أو غيرهما ، مما سخره الله - تعالى - له بقدرته ورحمته .
أى : هو - سبحانه - الذي يسيركم بقدرته ورحمته وفى البر والبحر ، بواسطة ما وهبكم من قدرة على السير ، أو ما سخر لكم من دواب وسفن وغيرهما مما تستعملونه وفى سفركم ، وكل ذلك من أجل مصلحتكم ومنفعتكم .
ثم قال - تعالى - { حتى إِذَا كُنتُمْ وفى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا . . . } .
والفل : ما عظم من السفن . ويستعمل هذا اللفظ عند كثير من العلماء للواحد والجمع . والظاهر أن المراد به هنا الجمع ، بدليل قوله { وَجَرَيْنَ } أى : السفن .
والمراد بالريح الطيبة : الريح المناسبة لسير السفن ، والموافقة لا تجاهها .
أى : هو - سبحانه - وحدا الذي ينقلكم من مكان إلى آخر وفى البر والبحر ، حتى إذا كنتم في إحدى مرات تسييركم راكبين في السفن التي سخرها لكم ، وجرت هذه السفن بمن فيها بسبب الريح الطيبة إلى المكان الذي تقصدونه ، وأنتم وفى حالة فرح غامر ، وسرور شامل . . { جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِم . . . } .
والريح العاصف : هي الريح الشديدة القوية . يقال : عصفت الريح واعصفت فهي عاصف إذا اشتدت وفى سرعتها وهيجانها .
والموج : ما ارتفع من مياه البحار ، والظن هنا بمعنى اليقين أو الاعتقاد الراجح ، وقوله : { أُحِيطَ بِهِمْ } أى : أحاط بهم البلاء من كل ناحية . يقال لمن وقع في بلية : قد أحيط به وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بعدوه جعله على حافة الهلاك .
أي بعد أن جرت السفن بهلاء القوم وفى البحر وهم وفى فرح وحبور ، جاءت إليهم ريح عاصفة شديدة السرعة والتقلب ، وارتفع إليها الموج من كل مكان ، واعتقد ركابها - الذين كانوا منذ قليل فرحين مبتهجين - أنهم قد أحاط بهم الهلاك كما يحيط العدو بعدوه .
وقوله : { بهم } فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، لأنه كان الظاهر أن يقال : حتى إذا كنتم وفى الفلك وجرين بكم لكن جاء الكلام على أسلوب الالتفات للمبالغة في تقبيح أحوالهم ، وسوء صنيعهم .
قال صاحب الكشاف " فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ؟ قلت : المبالغة ، كأنه لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإِنكار والتقبيح " .
وقوله : { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } بيان لما قالوه بعد أن داهمتهم الرياح العاصفة ، والأمواج العالية وبعد أن أيقنوا أنهم على حافة الموت .
أي وفى تلك الساعات العصبية ، واللحظات الحرجة ، توجهوا إلى الله وحده قائلين : نقسم لك يا ربنا ، ويا من لا يعجزك شيء ، لئن أنجينا من تلك الأهوال التي نحن فيها ، لنكونن من الشاكرين لك ، المطيعين لأمرك ، المتبعين لشرعك .
{ هو الذي يُسيّركم } يحملكم على السير ويمكنكم منه . وقرأ ابن عامر " ينشركم " بالنون والشين من النشر . { في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك } في السفن ، { وجرين بهم } بمن فيها ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم . { بريح طيبة } لينة الهبوب . { وفرحوا بها } بتلك الريح . { جاءتها } جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة ، بمعنى تلقتها . { ريح عاصف } ذات عصف شديدة الهبوب . { وجاءهم الموج من كل مكان } يجيء الموج منه . { وظنوا أنهم أُحيط بهم } أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو . { دعوا الله مخلصين له الدين } من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف ، وهو بدل من { ظنوا } بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم . { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } على إرادة القول أو مفعول { دعوا } لأنه من جملة القول .
هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر ، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه ، وكذلك لضروة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر ، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر ، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن ، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث : «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة »{[6057]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم «البحر لا أركبه أبداً »{[6058]} وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم «يسيركم » قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي : [ الطويل ]
فلا تجزعنْ من سُنة أنت سرتها*** فأول راض سنة من يسيرها{[6059]}
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا . وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق{[6060]} وهذه قراءة الجمهور من سير ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود وفي مصحف أبي شيخ{[6061]} وقال عوف بن أبي جميلة قد : كان يقرأ «ينشركم » فغيرها الحجاج بن يوسف «يسيركم » ، قال سفيان بن أبي الزعل : كانوا يقرأون «ينشركم » فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها «يسيركم » فأول من كتبها كذلك الحجاج ، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه «يسيركم » من أسار ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «يَنْشُركم » بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث ، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبيد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة ، وروي عن الحسن أنه قرأ «يُنشِركم » بضم الياء وكسر الشين وقال : هي قراءة عبد الله ، قال أبو حاتم : أظنه غلط ، و { الفلك } جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد{[6062]} ولكنه فعل جمع على فُعل ، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء «في الفلكي » على وزن فعليّ بياء نسب{[6063]} ، لقولهم أشقري ودواري{[6064]} في دور الدهر وكقول الصلتان{[6065]} :
انا الصلتاني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6066]}
وقوله { وجرين } علامة قليل العدد{[6067]} ، وقوله { بهم } خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قولهم : { كنتم في الفلك } هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن{[6068]} ، و «الريح » إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه ، لكنها لا يحسن في البحر أن تكونه إلا واحدة متصلة لا نشراً ، فقيدت المفردة «بالطيب » فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى ، وقرأ ابن أبي عبلة «جاءتهم ريح عاصف » ، والعاصف الشديدة من الريح ، يقال : عصفت الريح{[6069]} ، وقوله { وظنوا } على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور ، وقوله { دعوا الله } أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله ، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم : هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم ، قال الطبري : جواب قوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين } : { جاءتها ريح عاصف } وجواب قوله : { وظنوا أنهم أحيط بهم } : { دعوا الله مخلصين }{[6070]} .