قوله تعالى : { والخيل } ، يعني : وخلق الخيل ، وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ، { والبغال والحمير لتركبوها وزينة } ، يعني وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها . وأحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس ، وتلا هذه الآية ، فقال : هذه للركوب والية ذهب الحكم ، ومالك ، وأبو حنيفة . وذهب جماعة إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن و شريح وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . ومن أباحها قال : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا احمد بن عبد الله ألنعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن عمرو- هو ابن دينار-عن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أنبأنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو احمد عبد الله بن عدي الحافظ حدثنا الحسن بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن أكل لحوم البغال والحمير .
روى عن المقدام بن معد يكرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وإسناده ضعيف . { ويخلق ما لا تعلمون } ، قيل : يعني ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ، مما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر . وقال قتادة يعني : السوس في النبات والدود في الفواكه .
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } سخرناها لكم { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي : تارة تستعملونها للضرورة في الركوب وتارة لأجل الجمال والزينة ، ولم يذكر الأكل لأن البغال والحمر محرم أكلها ، والخيل لا تستعمل -في الغالب- للأكل ، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل خوفا من انقطاعها وإلا فقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل .
{ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء ، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم ، فإنه لم يذكرها بأعيانها ، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد ، أو يعرفون نظيره ، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه ، فيذكر أصلا جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون ، كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان } فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن ، وأجمل الباقي في قوله : { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
ثم ذكر - سبحانه - أنواعا أخرى من الحيوان المنتفع به ، فقال - تعالى - : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
قال الجمل : " الخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه ، بل من معناه وهو فرس ، وسميت خيلا لاختيالها فى مشيها .
والبغال جمع بغل : وهو المتولد بين الخيل والحمير . . " .
واللام فى قوله { لتركبوها } للتعليل .
ولفظ { وزينة } مفعول لأجله ، معطوف على محل { لتركبوها } .
والزينة : اسم لما يتزين به الإِنسان .
قال القرطبى : " هذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا ، إلا أن الله تعالى - أذن به لعباده ، ففى الحديث الشريف : " الإِبل عز لأهلها ، والغنم بركة ، والخيل فى نواصيها الخير " خرجه البرقانى وابن ماجة فى السنن ، . . " .
والمعنى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه خلق لمنفعتكم - أيضا - الخيل والبغال والحمير ، لتركبوها فى غزوكم وتنقلاتكم ، ولتكون زينة لكم فى أفراحكم ومسراتكم .
وأتى - سبحانه - باللام فى { لتركبوها } دون ما بعدها ، للإِشارة إلى أن الركوب هو المقصود الأصلى بالنسبة لهذه الدواب ، أما التزيين بها فهو أمر تابع للركوب ومتفرع منه .
قال صاحب الظلال : وفى الخيل والبغال والحمير ، تلبية للضرورة فى الركوب ، وتلبية لحاسة الجمال فى الزينة .
وهذه اللفتة لها قيمتها فى بيان نظرة القرآن ونظرة الإِسلام للحياة ، فالجمال - المتمثل فى الزينة - عنصر له قيمة فى هذه النظرة ، وليست النعمة هى مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ، بل تلبية الأشواق الزائدة عن الضرورات . تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنسانى المرتفع على ميل الحيوان ، وحاجة الحيوان .
وقال بعض العلماء : وقد استدل بهذه الآية ، القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب والزينة يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها .
وأجاب المجوزن لأكلها ، بأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها - وهو الركوب والزينة - لا ينافى غيره .
وقد ورد فى حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما فى الصحيحين وغيرهما ، من حديث أسماء قالت نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه .
وثبت - أيضا - فى الصحيحين من حديث جابر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن فى الخيل " .
وقد بسط الإِمام القرطبى القول فى هذه المسألة ، ورجح حل أكل لحوم الخيل ، وساق الأدلة والأحاديث فى ذلك ثم قال : " وكل تأويل من غير ترجيح فى مقابلة النص ، فإنما هو دعوى ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه " .
ويعجبنى فى هذا المقام قول الإِمام البغوى : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، والدليل الصحيح المعتمد عليه فى إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب .
ولما كان نص الآية يقتضى أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتا عنه ، ودار الأمر فيه على الإِباحة والتحريم ، وردت السنة النبوية بإباحة لحوم الخيل ، وبتحريم لحوم البغال والحمير فوجب الأخذ بما جاء فى السنة التى هى بيان للكتاب .
هذا وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على عظيم قدرته ، وسعة علمه ، فقال : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أى : ويخلق - سبحانه - فى الحال والاستقبال ، مالا تعلمونه - أيها الناس - من أنواع المخلوقات المختلفة سوى هذه الدواب ، كالسفن التى تمخر عباب الماء ، والطائرات التى تشق أجواز الفضاء ، والسيارات التى تنهب الأرض نهبا لسرعتها ، وغير ذلك من أنواع المخلوقات التى لا يعلمها سواه - سبحانه - والتى أوجدها لمنفعتكم ومصلحتكم .
وهذه الجملة الكريمة تدل على أن القرآن من عند الله - تعالى - فقد أوجد - سبحانه - العقول البشرية ، التى ألهمها صنع الكثير من المخترعات النافعة فى البر وفى البحر وفى الجو ، والتى لم يكن للناس معرفة بها عند نزول القرآن الكريم .
وتشير - أيضا - إلى مزيد فضل الله - تعالى - على الناس ، حيث أخبرهم بأنه سيخلق لهم فى مستقبل الأيام من وسائل الركوب وغيرها ، ما فيه منفعة لهم ، سوى هذه الدواب التى ذكرها .
فعليهم أن يستعملوا هذه الوسائل فى طاعة الله - تعالى - لا فى معصيته وعليهم أن يتقبلوا هذه الوسائل ، وأن يفتحوا عقولهم لكل ما هو نافع .
ورحم الله صاحب الظلال ، فقد قال عند تفسيره الآية ما ملخصه : يعقب الله - تعالى - على خلق الأنعام والخيل والبغال والحمير بقوله { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ليظل المجال مفتوحا فى التصور البشرى ، لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والركوب والزينة .
وحتى لا يقول بعض الناس : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير ، فلا نستخدم سواها ، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ماعداها .
ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة ، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان ، وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان : والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان ، بلا جمود ولا تحجر ، { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
وبعد أن بين - سبحانه - دلائل وحدانيته وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض والإِنسان والدواب . .
{ والخيل والبغال والحمير } عطف على { الأنعام } . { لتركبوها وزينة } أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة . وقيل هي معطوفة على محل { لتركبوها } وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ، ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض . وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة { لتركبوها } أو مصدرا في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو متزينا بها ، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل على أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر . { ويخلق ما لا تعلمون } لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري أجمل غيرها ، ويجوز أن يكون إخبارا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر .
وقوله تعالى : { والخيل } عطف أي وخلق الخيل ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «والخيلُ والبغالُ والحميرُ » بالرفع في كلها ، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية ، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء ، وقوله { وزينة } نصب بإضمار فعل ، قيل تقديره وجعلنا زينة ، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة » دون واو ، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في { تركبوها }{[7255]} وقوله { ويخلق ما لا تعلمون } عبرة منصوبة على العموم ، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أثر مما يعلمه ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة ، وبثها بأعيانها في البحر ، وزاد في مائتين ليست في البر .
قال القاضي أبو محمد :وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئاً ، كقول من قال : سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال ، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه . قال الطبري { ما لا تعلمون } هو ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك ، وذكر الطبري عن ابن عباس ، قال ابن جبير : سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فكرهها فاحتج بهذه الآية ، وقال : جعل الله الأنعام للأكل ، وهذه للركوب ، وكان الحكم بن عتبة يقول : الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء ، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام ، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها ، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها ، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل ، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال ، وفي جواز أكلها حديث أسماء بنت أبي بكر ، وحديث جابر بن عبد الله : كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم{[7256]} .
قال القاضي أبو محمد : والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور ، وهو تحقيق مذهب مالك ، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس ، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر ، وأنها ذوات حوافر ، وأنها لا أكراش لها ، وأنها متداخلة في النسل ، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر ، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة .