قوله تعالى : { وكذلك } مثل ما ذكرنا ، { أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى } مكة ، يعني : أهلها ، { ومن حولها } يعني قرى الأرض كلها ، { وتنذر يوم الجمع } أي : تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السماوات و الأرضين . { لا ريب فيه } لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون . { فريق في الجنة وفريق في السعير } أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو منظور الشامي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان التنوخي ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثني سعيد بن عثمان عن أبي الراهويه ، حدثنا جرير بن كريب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال الثعلبي : وأخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو هاشم بن القاسم ، حدثنا ليث ، حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا : لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال : للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب ، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ، ثم قال : للذي في يساره : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب ، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ، قال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذاً يا رسول الله ؟ فقال : اعملوا وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، ثم قال : { فريق في الجنة } { فضل من الله } { وفريق في السعير } عدل من الله عز وجل .
ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس ، حيث أنزل الله { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } بين الألفاظ والمعاني { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } وهي مكة المكرمة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من قرى العرب ، ثم يسري هذا الإنذار إلى سائر الخلق . { وَتُنْذِرَ } الناس { يَوْمَ الْجَمْعِ } الذي يجمع الله به الأولين والآخرين ، وتخبرهم أنه { لَا رَيْبَ فِيهِ } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ } وهم الذين آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين ، { وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } وهم أصناف الكفرة المكذبين .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من إنزال هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما بين أنواعا من الأدلة عن كمال قدرته ، ووجوب إفراده بالعبادة والخضوع . ووجوب التحاكم إلى شريعته عند الاختلاف والتنازع . فقال - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
والكاف فى قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً . . } فى محل نصب على المصدرية ، واسم الإِشارة يعود إلى مصدر { أَوْحَيْنَآ } .
أى : ومثل ذلك الإِيحاء البديع الواضح ، أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم - قرآنا عربيا ، لا لبس فيه ولا غموض .
وقوله - سبحانه - { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } تعليل لهذا الإِحياء . والمراد بأم القرى : أهلها .
وسميت مكة بأم القرى ، لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها ، كما يتبع الفرع الأصل ، أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل أم القرى ، ولتنذر به - أيضا - من حولها من أهل القرى الأخرى .
وخص أهل أم القرى ومن حولها بالذكر فى الإِنذار ، لأنهم أقرب الناس - إليه صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - فى آية أخرى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } وليس معنى هذا التخصيص أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت إليهم وحدهم ، لأن هناك آيات أخرى كثيرة قد صرحت بأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى الناس كافة ، ومن هذه الآيات : وقوله - تعالى - : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله - عز وجل - : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } .
فهذه الآيات وغيرها تنطق وتشهد بأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت للناس جميعا ، بل للإِنس وللجن ، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } وجملة { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ } معطوفة على ما قبلها . والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة ، لأنه اليوم الذى يجتمع يه الأولون والآخرون بين يدى الله - تعالى - للحساب والجزاء ، والثواب والعقاب .
أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل مكة ومن حلوها ، وتنذر الناس جميعا وتخوفهم من أهوال يوم القيامة ، الذى يجتمع فيه الخلائق للحساب .
وقوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } كلام معترض لتقرير ما قبله وتأكيده ، أو صلة ليوم الجمع .
وقوله : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الإِنذار .
أى : بعد هذا الإِنذار الذى أنذرته للناس - أيها الرسول الكريم - هناك فريق آمن بك وصدقك فكان مصيره إلى الجنة ، وهناك فريق أعرض عنك وكذبك ، فكان مصيره إلى النار .
{ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا } الإشارة إلى مصدر { يوحي } أو إلى معنى الآية المتقدمة ، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولا به و { قرآنا عربيا } حال منه . { لتنذر أم القرى } أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى . { ومن حولها } من العرب . { وتنذرهم يوم الجمع } يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح ، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعول الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإبهام التعميم ، وقرئ " لينذر " بالياء والفعل " للقرآن " . { لا ريب فيه } اعتراض لا محل له من الإعراب .
{ فريق في الجنة وفريق في السعير } أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولا ثم يفرقون ، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه ، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق ، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب .
ثم قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك } أي وكما قضينا أمرك هكذا وأمضيناه في هذه الصورة ، كذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً مبيناً لهم ، لا يحتاجون معه إلى آخر سواه ولا محتج غيره ، إذ فهمه متأت لهم ولم يكلفك إلا إنذاراً من ذكر . و : { أم القرى } مكة ، والمراد أهل مكة ، ولذلك عطف { من } ، وهي في الأغلب لمن يعقل . و : { يوم الجمع } هو يوم القيامة ، واقتصر في { تنذر } على المفعول الأول ، لأن المعنى : وتنذر أهل أم القرى العذاب ، وتنذر الناس يوم الجمع ، أي تخوفهم إياه لما فيه من عذاب من كفر ، وسمي { يوم الجمع } لاجتماع أهل الأرض فيه بأهل السماء ، أو لاجتماع بني آدم للعرض .
وقوله : { لا ريب فيه } أي في نفسه وذاته ، وارتياب الكفار به : لا يعتد به .
وقوله : { فريق } مرتفع على خبر الابتداء المضمر ، كأنه قال : هم فريق في الجنة ، وفريق في السعير .