اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ} (7)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } في قرآناً وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول أوحَيْنَا{[49054]} ، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً .

الثاني : أنه حال من الكاف ، و الكاف هي المفعول «لأَوْحَيْنَا » أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء ، وهو قرآن عربي وإليه نحا الزمخشري{[49055]} . وكون الكاف اسماً في النثر{[49056]} مذهب الأخفش{[49057]} .

فصل

قال ابن الخطيب : قوله { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره ، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إلريك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم{[49058]} .

قوله : { أُمَّ القرى } أي أهلَ{[49059]} أُمِّ القرى ؛ لأن البلد لا تعقِلُ{[49060]} .

قوله : { وَمَنْ حَوْلَهَا } عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب{[49061]} .

وقرئ : ليُنذر - بالياء من تحت - أي القرآن{[49062]} ، وأم القرى أصل القرى بمعنى مكة ، وسمي بهذا الاسم إجلالاً ؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم . والعرب تسمي أصل كلٍّ شيء أمةً ، حتى يقال : هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى «مَنْ حَوْلَها » أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر . والإنذار : التخويف{[49063]} .

قوله : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } أي تنذرهم بيوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض . وقيل : المراد تجمع الأرواح بالأجساد .

وقيل : يجمع كبين العامل وعمله وقيل : يجمع بين الظالم والمظلوم{[49064]} .

قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إخبارٌ فهو مستأنف ، ويجوز أن يكون حالاً من «يَوْمِ الجَمْعِ » وجعله الزَّمخشري اعتراضاً{[49065]} وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين{[49066]} .

قوله : «فَرِيقٌ » العامة على رفعه بأحد وجهين :

إمَّا الابتداء ، وخبره الجار بعده ، وساغ هذا في النكرة ، لأنه مقام تفصيل كقوله :

4371 . . . . . . . . . . . . . . . *** فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ{[49067]}

ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق{[49068]} . وساغ الابتداء{[49069]} بالنكرة لشيئين : تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها ، والثاني : أنه خبر ابتداء مضمر أي هم أي المجموعون ، دَلَّ على ذلك يوم الجمع .

وقرأ زيدٌ بن عليٍّ : فريقاً وفريقاً ، نصباً{[49070]} على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون .

وقال مكي : وأجاز الكسائي والفراءُ{[49071]} النصب في الكلام في «فريقاً » على معنى : تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع{[49072]} وكأنه لم يطلع على أنها قراءة{[49073]} .

وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا ( عليها ){[49074]} وجعل «فريقاً » مفعولاً أول لتنذر ، «ويوم الجمع » مفعولاً ثانياُ .

وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما . ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير ، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت الإنذار ، و«فِي الجَنَّةِ » صفة «فَرِيقاً » أو متعلق بذلك المحذوف{[49075]} .

فإن قيل : يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين ، والجمع بين الصنفين محال ! .

فالجواب : أنهم يجتمعون{[49076]} أولاً ثم يصيرون فريقين .


[49054]:قاله أبو حيان في البحر 7/509 والسمين في الدر 4/744.
[49055]:الكشاف 3/461.
[49056]:في ب البين تحريف ولحن.
[49057]:والفارسي وجماعة، وهذه الكاف الاسمية لا تقع كذلك عند سيبويه والمحققين إلا في الضرورة كقوله: بيض ثلاث كنعاج جم يضحكن عن كالبرد المنهم أما الأخفش والفارسي وجماعة فجوزوا ذلك في الاختيار. بتصرف من المغني 180.
[49058]:الفخر الرازي 27/147.
[49059]:فهو مجاز عقلي كقوله تعالى: {واسأل القرية} وكذلك ههنا.
[49060]:في ب لا يعقل بتذكير عائد على البلد وهما جائزان.
[49061]:بالمعنى من كشاف الزمخشري 3/461.
[49062]:السابق ولم ينسبها الزمخشري إلى من قرأ بها. وانظر أيضا الدر المصون 4/744.
[49063]:نقله الرازي في تفسيره 27/147.
[49064]:قال بالأول البغوي 6/117 وبالأقوال مجتمعة الرازي المرجع السابق.
[49065]:قال في الكشاف: اعتراض لا محل له. الكشاف 3/461.
[49066]:كالمبتدأ والخبر والفعل وفاعله والفعل ومفعوليه أو مفعوله الخ.
[49067]:عجز بيت من المتقارب لامرئ القيس صدره: فلما دنوت تسديتها ......................................... ويروى: فأقبلت زحفا على الركبتين، كما يروى: "لبست" بدل "نسيت" رواية المؤلف والبيت في معنى الفحش الجاهلي. والشاهد: فثوب نسيت... الخ، حيث ابتدأ الشاعر بنكرة وجاز لمسوغ من المسوغات وهو وجود التفصيل. وانظر الديوان 159، والمغني 472، وشرح الرضي على الكافية 1/92 والكتاب 1/86، والمحتسب 2/124، والخزانة 1/373، 375، وابن عقيل 34، وأمالي الشجري 1/93 كما ورد بالمغني أيضا 633.
[49068]:في ب فريق منهم عكسا وهو خطأ بالطبع فلا مسوغ حينئذ وانظر في هذا التقدير الأعلى أبا البقاء في التبيان 1130 والزمخشري 2/461.
[49069]:في ب الأخذ بدل الابتداء.
[49070]:ذكرها أبو حيان في البحر 7/509.
[49071]:قال في معاني القرآن له قوله: فريق في الجنة وفريق في السعير رفع بالاستئناف كقولك: رأيت الناس شقي وسعيد، ولو كان فريقا في الجنة وفريقا في السعير كان صوابا والرفع أجود في العربية. معاني الفراء 3/22.
[49072]:انظر مشكل الإعراب لمكي 2/276.
[49073]:انظر مشكل الإعراب لمكي 2/276.
[49074]:سقط من ب.
[49075]:انظر الدر 4/745.
[49076]:الكشاف 3/461.