قوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول } . الآية ، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهب العدو ، ويريهم من نفسه وأصحابه قوةً فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس ، فكلمة جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه . وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن ابن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلاً رضي الله عنهم ، حتى بلغوا حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك- تعني أبا بكر والزبير- لمن الذين قال الله عز وجل ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً وكان معبد يومئذ مشركا فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : لقد أصبنا جلة أصحابه وقادتهم ، لنكرن على بقيتهم ، فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبد قال له : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم ، لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني والله أنهاك عن ذلك ، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
فذكر أبياتاً فرد ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة ، قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة قال : فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالةً وأحمل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ غداً إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، وانصرف أبو سفيان إلى مكة ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قاله أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة . هذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد وعكرمة : نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال : يا محمد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ، ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال له أبو سفيان يا نعيم إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وأن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها ، قال : فجاء سهيل فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي هذه القلائص منأبي سفيان وأنطلق إلى محمد وأثبطه ؟ قال : نعم ، فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر الصغرى قال : بئس الرأي رأيكم ، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، والله لا يفلت منكم أحد ، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال ، وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدراً الصغرى ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ، ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، فانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، فذلك قوله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول ) أي أجابوا ، ومحل الذين خفض على صفة المؤمنين تقديره " إن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول " .
قوله تعالى : { من بعد ما أصابهم القرح } . أي نالتهم الجرح وتم الكلام ها هنا ثم ابتدأ فقال .
قوله تعالى : { للذين أحسنوا منهم } . بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو .
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من " أحد " إلى المدينة ، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة ، ندب أصحابه إلى الخروج ، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله ، وطاعة لله ولرسوله ، فوصلوا إلى " حمراء الأسد " وجاءهم من جاءهم وقال لهم : { إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم ، تخويفا لهم وترهيبا ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه .
ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .
أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .
وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .
فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .
وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .
وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .
ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .
وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .
قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
وقوله : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم " حمراء الأسد " ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا{[6182]} في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا ، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد ، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه - لما سنذكره - فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [ عز وجل ]{[6183]} ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئسما{[6184]} صنعتم ، ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد - أو : بئر أبي عيينة{[6185]} - الشك من سفيان - فقال المشركون : نرجع من قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد{[6186]} غزوة ، فأنزل{[6187]} الله عز وجل : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره{[6188]} .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرج{[6189]} معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال : يا بَنَيّ ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ، فتخلّف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم .
قال ابن إسحاق : حدثني{[6190]} عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان ؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شَهد أحدا قال : شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي{[6191]} فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ ، قلتُ لأخي - أو قال{[6192]} لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها ، وما منّا إلا جريح ثَقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحا{[6193]} منه ، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون{[6194]} .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] {[6195]} } قالت{[6196]} لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر ، رضي الله عنهما ، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : " مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ ؟ " فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما .
هكذا رواه البخاري منفردا به ، بهذا السياق . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم ، عن العباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبى سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة ، به ، ثم قال : صحيح ولم يخرجاه . كذا قال{[6197]} .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا بُني ، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[6198]} .
وروى ابن ماجة ، عن هشام بن عمّار ، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان ، به{[6199]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه . حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سَمويه ، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ كَانَ أبَواك لَمن{[6200]} الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ : أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما " {[6201]} .
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده ، لمخالفته رواية {[6202]} الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه ، ومن جهة معناه ، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، [ حدثني ] {[6203]} عَمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما{[6204]} كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا ، وَقَدْ رَجَعَ ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ " . وكانت وقعةُ أحد في شوال ، وكان التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد{[6205]} وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين ، وقال : " إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ " . فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : " إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ " . لأحضض الناس ، فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[6206]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] }{[6207]} {[6208]} .
ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . وقد مَر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر - معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي ، وكانت خُزاعة - مسلمهم ومشركهم - عيبة نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة ، صَفْقَتُهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد ، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم . ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم . . لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم . فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك . ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل {[6209]} حتى ترى نواصي الخيل - قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك . ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي*** إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة *** عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل{[6210]}
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً*** لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول
فقلتُ : ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ *** إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل{[6211]}
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً *** لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة *** وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه .
ومر به ركب من بني عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريدُ المدينة . قال : ولم ؟ قالوا :
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا{[6212]} قالوا : نعم . قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا{[6213]} المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب{[6214]} برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل{[6215]} .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ " {[6216]} .
وقال الحسن البصري [ في قوله ]{[6217]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [ الرُّعْبَ ]{[6218]} فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ ؟ " فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعُمَر ، وعثمان ، وعلي ، وناس من أصحاب النبي{[6219]} صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا ، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا ، وأنني راجع إليهم . فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه الآية .
وهكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن [ غزوة ]{[6220]} حَمْراء الأسد " ، وقيل : نزلت في بَدْر الموعد ، والصحيح الأول .
جملة { الذين استجابوا لله والرسول } صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أُحُد من الأرجاف بأنّ المشركين ، بعد أن بلغوا الرّوحاء ، خطر لهم أنْ لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم . وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } [ آل عمران : 149 ] . وقد تقدّم القول في القرح عند قوله : { إن يمسسكم قرح } [ آل عمران : 140 ] . والظاهر أنَّه هنا للقرح المجازي ، ولذلك لم يجمع فيقال القروح .