الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡاْ أَجۡرٌ عَظِيمٌ} (172)

قوله : " الذين " في موضع رفع على الابتداء ، وخبره " من بعد ما أصابهم القرح " . ويجوز أن يكون في موضع خفض ، بدل{[3698]} من المؤمنين ، أو من " الذين لم يلحقوا " . " استجابوا " بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان . ومنه قوله :

فلم يستجِبْه عند ذاك مجيب{[3699]}

وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير قال : قالت لي عائشة رضي الله عنها : كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . لفظ مسلم . وعنه عائشة : يا ابن أختي كان أبواك - تعني الزبير وأبا بكر - من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . وقالت : لما انصرف المشركون من أحد ، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال : ( من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة ) قال : فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين ، فخرجوا في آثار القوم ، فسمعوا بهم وانصرفوا بنعمة من الله وفضل . وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد ، وهي على نحو ثمانية أميال من المدينة ، وذلك أنه لما كان في يوم الأحد ، وهو الثاني من يوم أحد ، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بإتباع المشركين ، وقال : ( لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس ) فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين . في البخاري فقال : ( من يذهب في إثرهم ) فانتدب منهم سبعون رجلا . قال : كان فيهم أبو بكر والزبير على ما تقدم ، حتى بلغ حمراء الأسد ، مرهبا للعدو ؛ فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا ، فربما يحمل على الأعناق ، وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد . وقيل : إن الآية نزلت في رجلين من بني عبد الأشهل كانا مثخنين بالجراح ، يتوكأ أحدهما على صاحبه ، وخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وصلوا حمراء الأسد ، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم ، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا{[3700]} إلى المدينة فيستأصلوا أهلها ، فقالوا ما أخبرنا الله عنهم : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وعَيْبَةَ{[3701]} نُصْحِه ، وكان قد رأى حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما هم عليه ، ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك ، وخالصُ نصحه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم : قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم ، قد اجتمع له من كان تخلف عنه ، وهم قد تحرقوا عليكم ، فالنجاء النجاء ! فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر . قال : وما قلت ؟ قال : قلت :

كادت تُهَدُّ من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل{[3702]}

تُرْدِي بأُسد كرام لا تنابلةٍ *** عند اللقاء ولا ميلٍ مَعازيل{[3703]}

فَظَلْتُ عدواً أظنُّ الأرضَ مائلةً *** لما سَمَوا برئيس غيرِ مخذول

فقلت ويلَ ابن حربٍ من لقائكم *** إذا تَغَطْمَطَتِ البطحاء بالخيل{[3704]}

إني نذير لأهل البَسْلِ ضاحيةً *** لكل ذي إِرْبَةٍ منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخشٌ قَنَابِلُه *** وليس يُوصَفُ ما أنذرتُ بالقِيلِ{[3705]}

قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين ، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه إلى المدينة منصورا ؛ كما قال الله تعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " [ آل عمران : 174 ] أي قتال ورعب . واستأذن جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له . وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها غزوة ) . هذا تفسير الجمهور لهذه الآية . وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا : إن هذه الآية من قوله : " الذين قال لهم الناس " إلى قوله : " عظيم " [ آل عمران : 173 - 174 ] إنما نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى . وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد ، إذ قال : موعدنا بدر من العام المقبل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قولوا نعم ) فخرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر ، وكان بها سوق عظيم ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم ، وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي ، فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها ، فأشفق المسلمون من ذلك ، لكنهم قالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " فصمموا{[3706]} حتى أتوا بدرا فلم يجدوا أحدا ، ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة ، وانقلبوا ولم يلقوا كيدا ، وربحوا في تجارتهم ؛ فلذلك قوله تعالى : " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " أي وفضل في تلك التجارات . والله أعلم .


[3698]:- كذا في الأصول. والذي في النحاس والعبارة له: بدلا.
[3699]:- هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار وصدره: *وداع دعا يا من يجيب إلى الندى*.
[3700]:- في جـ وهـ وط: يرجعوا.
[3701]:- عيبة الرجل: موضع سره.
[3702]:- الجرد: خيل قصيرة شعر الجلد. أبابيل: فرقا.
[3703]:- ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الأرض بحوافرها في سيرها وعدوها. والتنابلة: القصار، واحدهم تنبال. والأميل: الذي يميل على السرج ولا يستوي عليه. وقيل: هو الكسل الذي لا يحسن الركوب والفروسية. والمعازيل: القوم ليس معهم سلاح، واحد معزال.
[3704]:- في الروض الأنف: "تغطمطت البطحاء، لفظ مستعار عن الغطمطة، وهو صوت غليان القدر. قوله (الخيل) وفي هـ وابن هشام ط أوربا: الجيل. والأول فيه سناد. ولعله: الخيل جمع أخيل فلا سناد.
[3705]:- الوخش: رذال الناس. والقنابل: الطائفة من الناس ومن الخيل، وفي جـ و ز والسيرة ط مصر مع الروض: تنابلة. وفي ط و ي وهـ: تناتلة: تنتل الرجل إذا تقذر بعد التنظف.
[3706]:- صمم في السير وغيره: مضى.