اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡاْ أَجۡرٌ عَظِيمٌ} (172)

قوله : " الذين استجابوا " فيه ستة أوْجُهٍ :

أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .

وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره " من بعدما أصابهم القرح " وهذا غلطٌ ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة ، بل " من بعد " متعلقٌ ب " استجابوا " .

الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هم الذين .

الثالث : أنه منصوب بإضمار " أعني " وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع .

الرابع : أنه بدل من " المؤمنين " .

الخامس : أنه بدلٌ من { الذين لم يلحقوا } قَالَه مَكّيٌّ .

السادسُ : أنه نعتٌ ل " المؤمنين " ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ ، وهو أن يكون نعتاً لقوله : { الذين لم يلحقوا } قياساً على جَعْلهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ .

و " ما " في قوله : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ } مصدرية ، و " الذين أحسنوا " خَبَرٌ مقدَّمٌ ، و " منهم " فِيْهِ وَجْهَان :

أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في " أحسنوا " وعلى هذا ف " من " تكون تبعيضية .

الثاني : أنها لبيان الجنسِ .

قال الزمخشري : " مثلها في قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم " . و " أجر " مبتدأ مؤخَّر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره ، إما مُستأنفة ، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب " الذين استجابوا " مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره .

والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات .

فصل في بيان سبب النزول

في سبب نزول هذه الآية وجهان :

أحدهما - وهو الأصح - : " أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا ، وقالوا : لا محمداً قَتَلْتُمْ ، ولا الكواعبَ أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ ، وقال : لا أريد أن يخرجَ الآن معي إلا من كان معي في القتالِ ، فانتدبَ عصابةً منهم - مع ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع ، وقال : يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ ، ولسْتُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن . فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مَعَهُ ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهِباً للعدو ، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم ، فيظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم ، فينصرفوا . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِينَ رَجُلاً ، منهم أبو بكرٍ وعمرُ ، وعثمانُ ، وعليٌّ ، وطلحةُ ، والزبيرُ ، وسعدٌ ، وسعيدٌ ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ ، وحذيفةُ بنُ اليَمانِ ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح ، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال{[6193]} "

روي عن عائشةً أنَّها قالتْ- لعبدِ الله بن الزُّبَيْر : ابنَ أختي ، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عز وجل - فيهم : { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ }{[6194]} .

وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً ، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى ، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم ، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم مَعْبَدٌ الخُزاعِيُّ بحمراء الأسدِ ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صَفْقَتهُمْ معه ، لا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها ، ومعبد - يومئذ - مشرك ، فقال : يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم{[6195]} .

ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم ، لنكرَّنَّ على بقيتهم ، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبدُ ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط ، يتحرقون عليكم تحرُّقاً ، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط ، قال ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصيَ الخيل . قال : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً : [ البسيط ] "

كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي *** إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ{[6196]}

وذكر أبياتاً . ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه . ومَرَّ به رَكْبٌ من بني عبد القيسِ ، فقالوا : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينةَ قالوا : ولِمَ ؟ قالوا : نريد المِيرَة ، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب " عكاظ " غداً إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نَعَمْ ، قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه ؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيتهم ، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ . ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ب " حمراء الأسد " فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : حَسْبُنَا الله وَنْعِمَ الوكيلْ ، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . " هذا قولُ أكثرِ المفسّرين .

الثاني : " قال الأصمُّ : نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ ، لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة ، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ ، فانهزموا ، وصلى عليهم صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم . وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : رُدَّها ؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فُعِلَ به ، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى ، فقال صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : فَدَعْها ، لتنظرَ إليه ، فقالت خيراً ، واستغفرت له . وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حَيٌّ قالت : كل مصيبةٍ بعدك هدر{[6197]} . "


[6193]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/400) وفي "تاريخه" (3/28) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/177) وزاد نسبته لابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل". والخبر في "سيرة ابن هشام" (3/106 ـ 107).
[6194]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/402) والحاكم (2/298) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري (7/287) ومسلم (2/241) والطبري في "تفسيره" (7/403) عن عائشة رضي الله عنها مختصرا.
[6195]:انظر تفسير الرازي (9/79).
[6196]:ينظر البيت في السيرة النبوية 2/103 والروض الأنف 3/174 وجامع البيان 7/407 ولباب التأويل 1/451 وتفسير القرطبي 4/278.
[6197]:ينظر تفسير الرازي 9/79.