ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح ، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة ، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم{[19775]} ، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان{[19776]} ، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم{[19777]} إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال : { الذين استجابوا } أي أوجدوا{[19778]} الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان { لله والرسول } أي لا لغرض مغنم ولا غيره ، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان - : { من بعد ما أصابهم القرح } .
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف{[19779]} حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى : { للذين أحسنوا{[19780]} } وعبر بما يصلح للبيان والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال : { منهم واتقوا أجر عظيم * } وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا : إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد ، أو {[19781]}غزوة بدر الموعد ، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي ، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري : إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً ، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد ، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم و{[19782]}أن الباقين كانوا مشاة فلعله ، وإلا فليس كذلك ، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع ، فأراد{[19783]} أن يرهبهم{[19784]} وأن{[19785]} يريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد{[19786]} من يوم أُحد{[19787]} - بطلب العدو ، وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس ، فأجابوا بالسمع والطاعة ، فخرج في{[19788]} أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، ولا يشك{[19789]} في أنهم أجابوا كلهم ، ولم يتخلف{[19790]} منهم أحد ، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج معه لأحد لم{[19791]} يشهد القتال يوم أحد ، واستأذنه{[19792]} رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه أذن له لعلة{[19793]} ذكرها في التخلف عن أحد محمودة{[19794]} .
قال الواقدي : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس ، فدفعه إلى علي رضي الله عنه ، ويقال : إلى{[19795]} أبي بكر رضي الله عنه ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه مشجوج{[19796]} وهو مجروح{[19797]} ، في وجهه أثر الحلقتين ، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر ، ورباعيته قد سقطت{[19798]} ، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن{[19799]} منكبه الأيمن بضربة{[19800]} ابن قميئة ، وركبتاه{[19801]} مجحوشتان بأبي هو{[19802]} وأمي ووجهي وعيني ! فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا ، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فدعا بفرسه على باب المسجد ، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى{[19803]} يسير ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال : يا طلحة سلاحك ! قال : قلت : قريب ، قال{[19804]} : فأخرج{[19805]} ، أعدو فألبس{[19806]} درعي {[19807]}ولأنا أهم{[19808]} بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال : " أين ترى القوم الآن ؟ قال : هم بالسيالة{[19809]} ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[19810]} : {[19811]}ذلك الذي ظننت ! أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا ! " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد ، قال جابر رضي الله عنه : وكان عامة زادنا التمر ، وحمل سعد{[19812]} بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء ، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين{[19813]} وفي يوم ثلاثاء ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم {[19814]}في النهار{[19815]} {[19816]}بجمع الحطب{[19817]} ، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران ، فيوقد كل رجل ناراً ، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى{[19818]} من المكان البعيد ، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهذا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين{[19819]} بالجراح - قال الواقدي : جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية ، عامة بني عبد الأشهل{[19820]} جريح ، بل كلهم{[19821]} - رضي الله عنهم ! فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم ، قال : يقول أسيد بن حضير{[19822]} رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ! {[19823]}فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء{[19824]} جراحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير ، فلبسوا ولحقوا ، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال : هذا منادي{[19825]} رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو ، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم ! فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً ، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً ، وبقطبة{[19826]} بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا{[19827]} النبي صلى الله عليه وسلم ببئر{[19828]} أبي عتبة{[19829]} إلى رأس الثنية{[19830]} عليهم السلاح ، قد صفوا{[19831]} لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال :
" اللهم ارحم بني سلمة ! " وحدث{[19832]} ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما{[19833]} جراح كثيرة{[19834]} ، فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه : والله{[19835]} إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغَبنا{[19836]} والله ما عندنا دابة نركبها{[19837]} وما ندري كيف نصنع{[19838]} ! قال عبد الله : انطلق بنا ، قال رافع : لا والله {[19839]}ما بي مشي{[19840]} ! قال أخوه : انطلق بنا{[19841]} نتجارّ{[19842]} ، فخرجا يزحفان{[19843]} فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهو يوقدون النيران ، فأتى{[19844]} بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد {[19845]}بن بشر فقال{[19846]} : " ما حبسكما ؟ فأخبراه بعلتهما ، فدعا لهما بخير {[19847]}وقال : إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال{[19848]} وإبل ، وليس ذلك بخير لكم " وأما غزوة بدر الموعد{[19849]} فروى الواقدي - و{[19850]}من طريقه{[19851]} الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من أصحابه رضي الله عنهم ، وكانت الخيل عشرة قال{[19852]} الواقدي : وأقبل رجل من بني ضمرة يقال له مخشى{[19853]}بن عمرو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم{[19854]} أكثر أهل الموسم : يا محمد ! لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد{[19855]} ، فما أعلمكم إلا أهل الموسم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " ليرفع ذلك إلى عدوه : ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا ، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح{[19856]} من منزلنا هذا ، فقال الضمري : بل نكف{[19857]} أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك{[19858]} " .