{ ذَلِكَ } الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة ، { مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } فإن الحكمة الأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والنهي عن أراذل الأخلاق وأسوأ الأعمال .
وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل الأمم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا .
ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله كما افتتحها بذلك فقال : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ } أي : خالدا مخلدا فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار .
{ مَلُومًا مَدْحُورًا } أي : قد لحقتك اللائمة واللعنة والذم من الله وملائكته والناس أجمعين .
ثم ختم - سبحانه - تلك الأحكام المحكمة ، والتكاليف السامية ، بقوله : { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } .
أى : ذلك الذى أمرناك به ، ونهيناك عنه - أيها الرسول الكريم - بعض ما أوحاه الله - تعالى - عليك { من الحكمة } التى هى علم الشرائع ومعرفة الحق ، والعمل به ، وحذار أن تجعل بعد هذا البيان الحكيم ، مع الله - تعالى - إلها آخر - أيها المخاطب - فتلقى وتطرح فى جهنم ، ملوما من نفسك ومن غيرك ، مدحورا أى : مبعدا من رحمة الله - تعالى - .
قال صاحب الكشاف : ولقد جعل الله - تعالى - فاتحتها - أى تلك الآيات المشتملة على تلك الأوامر والنواهى - وخاتمتها ، النهى عن الشرك ، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذّ فيها الحكماء ، وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة التى اشتملت على بضع وعشرين تكليفا ، والتى ابتدأت بقوله - تعالى - { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } وانتهت بقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ . . } قد ربطت قواعد السلوك والآداب : والتكاليف الفردية والاجتماعية ، بإخلاص العبادة لله - تعالى - لأن هذا الإِخلاص لله - تعالى - فى العقيدة والعبادة والقول والعمل . . هو رأس كل حكمة وملاكها . كما قال صاحب الكشاف - رحمه الله - .
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما ذكر من الأوامر والنواهى فى الآيات السابقة ، التى بدأها وختمها بالنهى عن الإِشراك بالله - تعالى - أتبع ذلك بإقامة الأدلة على استحالة أن يكون له شريك أو ولد ، بل كل من فى السماوات ومن الأرض ، خاضع لسلطانه ، وما من شئ إلا ويسبح بحمده ، فقال - تعالى - : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } .
يقول تعالى : هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة ، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس .
{ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا } أي : تلومك نفسك [ ويلومك الله ]{[17514]} والخلق . { مَدْحُورًا } . قال ابن عباس وقتادة : مطرودًا .
والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم .
قوله { ذلك مما أوحى إليك ربك } الآية . الإشارة ب { ذلك } إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق ، و { الحكمة } قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة ، ثم عطف قوله { ولا تجعل } على ما تقدم من النواهي ، والخطاب للنبي عليه السلام ، والمراد كل من سمع الآية من البشر ، و «المدحور » ، المهان المبعد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك مما أوحى إليك ربك}، أي ذلك أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات،
{من الحكمة} التي أوحاها إليك يا محمد. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {ولا تجعل مع الله إلها ءاخر}، فإن فعلت،
{فتلقى في جهنم ملوما}، تلوم نفسك يومئذ،
{مدحورا}، يعنى مطرودا في النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق الجميلة التي أمرناك بجميلها، ونهيناك عن قبيحها "مِمّا أوْحَى إلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الحِكْمَةِ "يقول: من الحكمة التي أوحيناها إليك في كتابنا هذا... قال ابن زيد، في قوله "ذلكَ مِمّا أوْحَى إلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الحِكْمَةِ" قال: القرآن...
"وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنّمَ مَلُوما مَدْحُورا" يقول: ولا تجعل مع الله شريكا في عبادتك، "فتُلقى في جهنم ملوما" تلومك نفسك وعارفوك من الناس "مَدْحُورا" يقول: مُبْعَدا مقصيا في النار، ولكن أخلص العبادة لله الواحد القهّار، فتنجوَ من عذابه... عن ابن عباس، في قوله: "مَلُوما مَدْحُورا" يقول: مطرودا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الحكمة هي وضع الشيء موضعه؛ يقول: حكمه وضع كل شيء موضعه.
{ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا} معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل مع الله إلها آخر، إذ عصمه، واختاره لرسالته، لكنه ذكر ذلك ليعلم أنه لو كان منه ذلك لفُعِلَ به ما ذكر. فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة" أي ذلك الذي ذكرناه وقصصناه من جملة ما أوحى إليك يا محمد ربك من الحكمة، أي الدلائل التي تؤدي إلي المعرفة بالحسن والقبيح، والفرق بينهما، والواجب مما لا يجب، وذلك كله مبين في القرآن، فهو الحكمة البالغة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... سماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه...
ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك؛ لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء. وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ذلك مما أوحى إليك ربك...}. الإشارة ب {ذلك} إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق، و {الحكمة} قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة، ثم عطف قوله {ولا تجعل} على ما تقدم من النواهي، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد كل من سمع الآية من البشر، و «المدحور»، المهان المبعد...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْك رَبُّك من الْحِكْمَةِ} وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ من قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تمت هذه الأوامر والزواجر على هذا الوجه الأحكم والنظام الأقوم، أشار إلى عظيم شأنه ومحكم إتقانه بقوله على طريق الاستئناف، تنبيهاً للسامع على أن يسأل عنه: {ذلك} أي الأمر العالي جداً {مما أوحى} أي بعث في خفية {إليك ربك} أي المحسن إليك {من الحكمة} التي لا يستطاع نقضها ولا الإتيان بمثلها من الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر، ومن حكمة هذه الأشياء المشار إليها من الأوامر والنواهي أنها لم تقبل النسخ في شريعة من الشرائع، بل كانت هكذا في كل ملة... ولما بين أن الجهل سبب لكل سوء، وكان الشرك أعظم جهل، أتبعه -ليكون النهي عنه بدءاً وختاماً، دلالة على فرط شناعته عطفاً على ما مضى من النواهي- قوله تعالى: {ولا تجعل} أو يقدر له ما يعطف عليه نحو: فالزمه ولا تجعل {مع الله} أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله... {إلهاً}. ولما كانوا لتعنتهم ربما جعلوا تعداد الأسماء تعداداً للمسميات كما ورد في سبب نزول {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} قال تعالى مع إفهام المعية للغيرية: {ءاخر} فإن ذلك أعظم الجهل الذي نهى عن قفوه... {فتلقى} أي فيفعل بك في الآخرة في الحبس {في جهنم} من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عالٍ... {ملوماً} أي معنفاً على ما فعلت بعد الذم {مدحوراً} أي مطروداً بعد الخذلان، فهذان الوصفان أشنع من وصفي الذم والخذلان في الآية الأولى كما هي سنته تعالى أن يبدأ بالأخف تسليكاً لعباده...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة، فرتب على الأوّل كونه مذموماً مخذولاً، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى {فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة، وفي القعود هناك، والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
الحكمة هي العلم الصحيح، والعمل المتقن المبني على ذلك العلم. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:"هي الفقه في دين الله والعمل به". و القرآن حكمة لدلالته على ذلك كله... والتقدير: ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك... و في ذكر أنها بعض من كل. تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم. و تنبيه أيضا على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي، ويعتمد في ذلك على بيانه... و في افتتاح الآيات بقوله تعالى: "لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا". وختمها بقوله تعالى: "ولا تجعل مع الله إلها آخر، فتلقى في جهنم ملوما مدحورا"، بيان من الله تعالى لخلقه، بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقيتها، وسور حفظها، و إن التوحيد هو ملاك الأعمال وقوامها، ومنه بدايتها و إليه نهايتها. و كذلك المسلم الموفق يبتدئ حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل الأمم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا... {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ} أي: خالدا مخلدا فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار... {مَلُومًا مَدْحُورًا} أي: قد لحقتك اللائمة واللعنة والذم من الله وملائكته والناس أجمعين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ذلك مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطَب غير المعين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ردًّا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله: {وقضى ربك} الخ [الإسراء: 23]. وهو تذييل معترض بين جمل النهي. والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحةً من قوله: {وقضى ربك} [الإسراء: 23]... وفي هذا التذييل تنبيه على أنّ ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرةَ هو من الحكمة، تحريضاً على اتباع ما فيها وأنه خير كثير. وفيه امتنان على النبي بأن الله أوحى إليه، فذلك وجه قوله: مما أوحى إليك تنبيهاً على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لولا الوحي من الله، وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس... والحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه، وتطلق على الكلام الدال عليها... والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله... والإلقاء: رمْي الجسم من أعلى إلى أسفل، وهو يؤذن بالإهانة. والملوم: الذي يُنكر عليه ما فعله. والمدحور: المطرود، أي المطرود من جانب الله، أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة...
و تُلقى منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه، أي فيتسبب على جعلك مع الله إلهاً آخر إلقاؤك في جهنَم...
(الحكمة) هي: وضع الشيء في موضعه المؤدي للغاية منه، لتظل الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمق والسفه والفساد... وكرر الحق سبحانه هذا النهي: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر}: لأنه قد يأتي على الناس وقت يحسنون الظن بعقول بعض المفكرين، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم، ويفضلونها على منهج الحق تبارك وتعالى، فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق إلى قضايا أخرى يوهمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذَلِكَ} المنهج الأخلاقي العملي الذي كانت المفردات المتقدمة نماذج حيّة لأمثالها من القيم الروحية الإنسانية... {مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} التي تعمِّق للإنسان رؤيته الواقعية، التي يعرف بها موازين الأشياء ومناسباتها، بالطريقة التي تقرّبه من الصواب وتبعده عن مواقع الخطأ في حركة النظرية والتطبيق. وبهذا نعرف أن الحكمة تمثل الخط العملي الذي يدرِّب الإنسان على التحرُّك في الخط المستقيم نحو الهدف الكبير الذي يلتقي عنده العقل والإيمان والرؤية الواضحة لطبيعة الساحة العملية... {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} في عقيدتك وطاعتك، في ما يمثله توحيد الفكر والعمل، فإن ذلك هو الذي يوحّد لك المنهج الفكري والأخلاقي والتشريعي، فيمنع طريقك من الانحراف، وخطواتك من الزلل، وهدفك من الضياع. أمّا إذا ابتعدت عن خط الاستقامة، وعبدت آلهة الأرض من الطغاة والمستكبرين، فسترتبك خطواتك، وستعيش الحيرة في تصوراتك والقلق في مشاعرك والانهيار في مواقعك في ساحة الحياة...