البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا} (39)

واختتم الآيات بقوله { ولا تجعل } وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر ، و { مما أوحى } خبر عن ذلك ، و { من الحكمة } يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما ، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ .

وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، أولها { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول .

{ فتقعد مذموماً مخذولاً } وفي الثاني { فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً .

وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء { فتلقى في جهنم } والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول .

وقال الزمخشري : ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم .