قوله تعالى :{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } يعني كفار مكة ، يقول : إنهم سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام . { ولولا كلمة الفصل } لولا أن الله حكم في كلمة الفصل بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة ، حيث قال : { بل الساعة موعدهم } ( القمر-46 ) ، { لقضي بينهم } لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا ، { وإن الظالمين } المشركين ، { لهم عذاب أليم } في الآخرة .
{ 21-23 } { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإياهم في الكفر وأعماله ، من شياطين الإنس ، الدعاة إلى الكفر { شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } من الشرك والبدع ، وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم .
مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه ، فالأصل الحجر على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن الله وعن رسوله ، فكيف بهؤلاء الفسقة المشتركين هم وأباؤهم على الكفر .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لولا الأجل المسمى الذي ضربه الله فاصلا بين الطوائف المختلفة ، وأنه سيؤخرهم إليه ، لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإهلاك المبطل ، لأن المقتضي للإهلاك موجود ، ولكن أمامهم العذاب الأليم في الآخرة ، هؤلاء وكل ظالم .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على كفرهم ، وقارنت بين مصيرهم السئ ، وبين المصير الطيب الذى وعد الله به المؤمنين . . . فقال - تعالى - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ . . . . بِذَاتِ الصدور } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أى : ألهم ، والميم صلة الهمزة للتقريع .
وهذا متصل بقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } وقوله - تعالى - : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } كانوا لا يؤمنون به ، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذى لم يأذن به الله ؟ وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك ، فمن أين يدينون به .
فالآية الكريمة تنكر عليهم شركهم بأبلغ أسلوب ، وتؤنبهم على جهالتهم حيث أشركوا بالله - تعالى - : دون أن يكون عندهم دليل أو ما يشبه الدليل على صحة ما وقعوا فيه من باطل .
والمراد بكلمة الفصل فى قوله - تعالى - : { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ما تفضل به - سبحانه - من تأخير العذاب الماحق عنهم .
أى : ولولا حكمنا بتأخير العذاب عنهم - فضلا منا وكرما - لقضى الأمر بين هؤلاء الكافرين وبين المؤمنين ، بأن أهلكنا الكافرين واستأصلنا شأفتهم فى الدنيا ، ولكن شاء ربك أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة .
{ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فى الآخرة ، بسبب إصرارهم على ظلمهم وموتهم على الكفر والشرك .
وقوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } أي : هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، من تحريم ما حرموا عليهم ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل الميتة والدم والقمار ، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة{[25809]} الباطلة ، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم ، من التحليل والتحريم ، والعبادات الباطلة ، والأقوال الفاسدة .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار " {[25810]} لأنه أول من سيب السوائب . وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة ، وهو أول من فعل هذه الأشياء ، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام ، لعنه الله وقبحه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لعوجلوا بالعقوبة ، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد ، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : شديد موجع{[25811]} في جهنم وبئس المصير .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يقول تعالى ذكره أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ يقول : ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره : ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا ، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة ، لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا ، ولكن لهم في الاَخرة من العذاب الأليم ، كما قال جلّ ثناؤه : وَإنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجِع .
{ أم } هذه هي منقطعة لا معادلة ، وهي بتقدير بل وألف الاستفهام . والشركاء في هذه الآية : يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ، ويكون الضمير في { لهم } للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله ، فالاشتراك ها هنا هو في الكفر والغواية ، وليس بشركة الإشراك بالله ، ويحتمل أن يكون المراد ب «الشركاء » : الأصنام والأوثان على معنى : أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته ، ويكون الضمير : في : { شرعوا } لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم . والضمير في : { لهم } للأصنام الشركاء ، أي شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله ، و : { شرعوا } معناه : أثبتوا ونهجوا ورسموا . و { الدين } هنا العوائد{[10128]} والأحكام والسيرة ، ويدخل في ذلك أيضاً المعتقدات ، لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً ، فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة ، وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك ، وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها ، والإذن في هذه الآية الأمر . و { كلمة الفصل } : هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم إلى الآخرة والقضاء بينهم : هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم .
وقرأ جمهور الناس : «وإن الظالمين » بكسر الهمزة على القطع والاستئناف . وقرأ مسلم بن جندب «وأن الظالمين » بفتح الهمزة ، وهي في موضع رفع عطف على : { كلمة } المعنى : وأن الظالمين لهم في الآخرة عذاب .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله }
للإضراب الانتقالي وهو انتقال من الكلام على تفرق أهل الشرائع السالفة في شرائعهم مَن انقرض منهم ومن بقي كأهل الكتابين إلى الكلام على ما يشابه ذلك من الاختلاف على أصل الديانة ، وتلك مخالفة المشركين للشرائع كلّها وتلقّيهم دين الإشراك من أيمة الكفر وقادة الضلال .
ومعنى الاستفهام الذي تقضيه { أم } التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكّم ، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم الشرك ، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك : أهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاءَ لله في الإلهاية وفي شرع الأديان كما شرع الله للناس الأديان ؟ وهذا تهكّم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدّعِه أهل الشرك من العرب . وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير { شركاء } ووصْفَه بجملة { شرعوا لهم من الدين } . ويجوز أن يكون المسؤول عن الذي شرع لهم هو الأصنام التي يعبدونها ، وهو الذي درج عليه المفسرون ، فيكون { لهم } في موضع الحال من { شركاء } .
والمقصود : فضح فظاعة شركهم بعروه عن الانتساب إلى الله ، أي إن لم يكن مشروعاً من الإله الحقّ فهو مشروع من الآلهة الباطلة وهي الشركاء . وظاهر أن تلك الآلهة لا تصلح لتشريع دين لأنها لا تعقل ولا تتكلم ، فتعين أن دين الشرك دين لا مستند له . وقريب من هذا قوله تعالى : { وكذلك زَيَّن لِكَثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] .
وقيل المراد بالشركاء : أيمة دين الشرك أطلق عليهم اسم الشركاء مجازاً بعلاقة السببية .
وضميرَا { لهم } عائدان إلى { الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] أو إلى { الذين يحاجون في الله } [ الشورى : 16 ] . والتعريف في { الدين } للجنس ، أي شرعوا لهم من جنس الدّين ما ، أي ديناً لم يأذن به الله ، أي لم يأذن بِشرعه ، أي لم يرسل به رسولاً منه ولا أوحى به بواسطة ملائكته .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِىَ بينهم }
هو كقوله فيما تقدم { ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقُضي بينهم } [ الشورى : 14 ] .
وكلمة الفصل هي : ما قدّره الله وأرادهُ من إمهالهم . والفصل : الفاصل ، أي الذي لا تردد فيه .
{ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أليم } .
عطف على جملة { ولولا كلمة الفصل } والمقصود تحقيق إمهالهم إلى أجل مسمى لا يفلتهم من المؤاخذة بما ظَلموا . والمراد بالظالمين المشركون { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والعذاب الأليم : عذاب الآخرة لجميعهم ، وعذاب الدّنيا بالسيف والذلّ للذين أُخّروا إلى إبَّان حلوله مثل قتلهم يوم بدر .
وَتَوْكيد الخبر بحرف التوكيد لأن هذا الخبر موجه إليهم لأنهم يسمعون هذا الكلام ويعلمون أنهم المقصودون به .