في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (21)

ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :

أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وإن الظالمين لهم عذاب أليم . ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قل : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ؛ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ، إن الله غفور شكور . .

في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، وهو ما أوحى به إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه ، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه ? وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات ?

( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ) . .

وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله ، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير ، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .

ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها ، أو لا يقتنعون بها ، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله ! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله ! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله !

لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه ، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها . وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها ، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً ، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .

بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله ، وعلى دين الله ، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .

( ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ) . .

فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم ، فأخذ المخالفين لما شرعه الله ، المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .

( وإن الظالمين لهم عذاب أليم ) . .

فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه ?