قوله تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } ، يعني : القرآن { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } ، فيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة . قيل : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره على عادة العرب ، فإنهم يخاطبون الرجل ويردون به غيره ، كقوله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب-1 ] ، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به المؤمنون ، بدليل أنه قال : { إن الله كان بما تعملون خبيراً } ولم يقل : بما تعمل : وقال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق-1 ] . وقيل : كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين مصدق ومكذب وشاك ، فهذا الخطاب مع أهل الشك ، معناه : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان رسولنا محمد ، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك . قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : يعني من آمن من أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، فيشهدون على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ويخبرونك بنبوته . قال الفراء : علم الله سبحانه وتعالى أن رسوله غير شاك ، لكنه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحد منهم لعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، ويقول لولده : افعل كذا وكذا إن كنت ابني ، ولا يكون بذلك على وجه الشك . { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } ، من الشاكين .
{ 94 - 95 } { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } هل هو صحيح أم غير صحيح ؟ .
{ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } أي : اسأل أهل الكتب المنصفين ، والعلماء الراسخين ، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به ، وموافقته لما معهم ، فإن قيل : إن كثيرًا من أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه ، وردوا عليه دعوته .
والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم ، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به ، وبرهانًا على صدقه ، فكيف يكون ذلك ؟
فالجواب عن هذا ، من عدة أوجه :
منها : أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة ، أو أهل مذهب ، أو بلد ونحوهم ، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم .
وأما من عداهم ، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم ، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق ، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين ، ك " عبد الله بن سلام " [ وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه ، ومن بعده ]{[416]} و " كعب الأحبار " وغيرهما .
ومنها : أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه .
فإذا كان موجودًا في التوراة ، ما يوافق القرآن ويصدقه ، ويشهد له بالصحة ، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم{[417]} على إنكار ذلك ، لم يقدح بما جاء به الرسول .
ومنها : أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه ، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد .
ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله ، لأبدوه وأظهروه وبينوه ، فلما لم يكن شيء من ذلك ، كان عدم رد المعادي ، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه .
ومنها : أنه ليس أكثر أهل الكتاب ، رد دعوة الرسول ، بل أكثرهم استجاب لها ، وانقاد طوعًا واختيارًا ، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب{[418]} .
فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة ، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام ، ومصر ، والعراق ، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب ، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق ، ومن تبعهم من العوام الجهلة ، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى ، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل ، وإنما انتسبوا للدين المسيحي ، ترويجًا لملكهم ، وتمويهًا لباطلهم ، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة .
وقوله : { لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ } أي : الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال : { مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله تعالى : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ }
وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، ومع قومه بنى إسرائيل ، وجه القرآن خطابا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تثبيتا لقلبه ، وتسلية له عما أصابه من أذى ، فقال - تعالى - :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين . . . }
المراد { مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } هنا : ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قصص حكم يتعلق بأنبياء الله - تعالى - ورسله .
قال الآلوسى : " وحضت القصص بالذكر ، لأن الأحكام المنزلة عليه - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لأحكامهم ، ومخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها " .
والمراد بالكتاب : جنسه فيشمل التوراة والإِنجيل .
والمعنى : فإن كنت أيها الرسول الكريم - على سبيل الفرض والتقدير - في شك مما أنزلنا إليك من قصص حكيم كقصة موسى ونوح وغيرهما { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } وهم علماء أهل الكتاب ، فإن ما قصصناه عليك ثابت في كتبهم .
فليس المراد من هذه الآية ثبوت الشك للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما المراد على سبيل الفرض والتقدير ، لا على سبيل الثبوت .
قال ابن كثير : " قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت للأمة ، وإعلام لهم بأن صفة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدى أهل الكتاب ، كما قال - تعالى - { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل . . . } وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في شأن عيسى - عليه السلام - : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . . . } فعيسى - عليه السلام - يعلم علم اليقين أنه لم يقل ذلك ، وإنما يفرض قوله فرضا . ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله - تعالى - منه .
أى : إن كنت قلته - على سبيل الفرض والتقدير - فقولى هذا لا يخفى عليك .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : كيف قال الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ . . . } ؟
قلت : هو على سبيل الفرض والتمثيل . كأنه قيل : فإن وقع لك شك - مثلا - وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب } .
والمعنى : أن الله - عز وجل - قدم ذكر بنى إسرائيل ، وهم قراءة الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن ، وصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبالغ في ذلك فقال : فإن قوع لك شك فرضا وتقديرا .
فسل علماء أهل الكتاب يعنى أنهم من الإِحاطة بصحة ما أنزل إليك ، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ، فضلا عن غيرك .
فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صوفه بالشك فيه .
ويجوز أن يكون على طريق التهييج والإِلهاب كقوله { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } كلام مستأنف مؤكد لاجتثاث إرادة الشك .
والتقدير : أقسم لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره ، فلا تكونن من الشاكين المترددين في صحة ذلك .
قال قتادة بن دِعَامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " {[14423]}
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت{[14424]} للأمة ، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة{[14425]} في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } أي : لا يؤمنون إيمانا ينفعهم ، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها ؛ ولهذا لما دعا موسى ، عليه السلام ، على فرعون وملئه قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن كنت يا محمد في شكّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزل إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولاً إلى خلقه ، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبا ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك منهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به ، يقول : فاسئلهم إن كنت في شكّ بأنك مكتوب عندهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تعالى : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : هو عبد الله بن سلام ، كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : هم أهل الكتاب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت إبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكّ من خبر الله أنه حقّ يقين حتى قيل له : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قيل : لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فقال : لم يشكّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسأل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : ما شكّ وما سأل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن الحسن في هذه الآية ، قال : لم يشكّ صلى الله عليه وسلم ولم يسأل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا أشُك ولا أسْألُ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْئَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا أشُكّ ولا أسأَلُ » .
فإن قال : فما وجه مخرج هذا الكلام إذن إن كان الأمر على ما وصفت ؟ قيل : قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا استجازة العرب قول القائل منهم لملوكه : إن كنت مملوكي فانته إلى أمري والعبد المأمور بذلك لا يشكّ سيده القائل له ذلك أنه عبده . كذلك قول الرجل منهم لابنه : إن كنت ابني فبرّني وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه ، وأن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم ، وذكرنا ذلك بشواهد ، وأن منه قول الله تعالى : وَإذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ وقد علم جلّ ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك . وهذا من ذلك ، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكا في حقيقة خبر الله وصحته ، والله تعالى بذلك من أمره كان عالما ، ولكنه جلّ ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا ، إذ كان القرآن بلسانهم نزل .
وأما قوله : لَقَدْ جاءَكَ الحَقّ مِنْ رَبّكَ . . . الآية ، فهو خبر من الله مبتدأ ، يقول تعالى ذكره : أقسم لقد جاءك الحقّ اليقين من الخبر بأنك لله رسول ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم . فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْترِينَ يقول : فلا تكوننّ مِنَ الشّاكِين في صحة ذلك وحقيقته . ولو قال قائل : إن هذه الآية خوطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوّته صلى الله عليه وسلم ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه ، تنبيها له على موضع تعرّف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه ، كما قال جلّ ثناؤه : يا أيّها النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما كان قولاً غير مدفوعة صحته .
{ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } من القصص على سبيل الفرض والتقدير . { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما القينا إليك ، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها ، أو وصف أهل الكتاب الرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه ، أو تهييج الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لا أشك ولا أسأل " . وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي أن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك ، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم . { لقد جاءك الحق من ربك } واضحا أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة . { فلا تكونن من الممترين } بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} عبد الله بن سلام وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"لا أشك، ولا أسأل بعد، أشهد أنه الحق من عند الله"
{لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} يعني من المشككين في القرآن بأنه جاء من الله تعالى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كنت يا محمد في شكّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزل إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولاً إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبا ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك منهم...
فإن قال قائل: أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكّ من خبر الله أنه حقّ يقين حتى قيل له:"فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْألِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ" قيل: لا، وكذلك قال جماعة من أهل العلم.
...عن سعيد بن جبير، في قوله: "فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ "فقال: لم يشكّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسأل...
فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام إذن إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: إن كنت مملوكي فانته إلى أمري، والعبد المأمور بذلك لا يشكّ سيده القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: إن كنت ابني فبرّني وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهد، وأن منه قول الله تعالى: "وَإذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ" وقد علم جلّ ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. وهذا من ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى بذلك من أمره كان عالما، ولكنه جلّ ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا، إذ كان القرآن بلسانهم نزل.
وأما قوله: "لَقَدْ جاءَكَ الحَقّ مِنْ رَبّكَ"، فهو خبر من الله مبتدأ، يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحقّ اليقين من الخبر بأنك لله رسول، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم. "فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْترِينَ" يقول: فلا تكوننّ مِنَ الشّاكِين في صحة ذلك وحقيقته. ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوّته صلى الله عليه وسلم ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرّف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جلّ ثناؤه: "يا أيّها النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما" كان قولاً غير مدفوعة صحته.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشاكّين به، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
هذا خطاب من الله لنبيه يقول: إن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك، وفيه وجهان: أحدهما: في شك أنك رسول. الثاني: في شك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكَتَابَ مِن قَبْلِكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد مَنْ منهم مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار، قاله ابن زيد. الثاني: أنه عنى أهل الصدق والتقوى منهم، قاله الضحاك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما شكَّ- صلى الله عليه وسلم -فيما عليه أُنْزِل، ولا عن أحدٍ منهم ساءَل، وإنما هذا الخطابُ على جهة التهويل، والمقصود منه تنبيهُ القوم على ملازمة نهج السبيل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِن كُنتَ في شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} مع قوله في الكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ}. قلت: فرق عظيم بين قوله: {إِنَّهُمْ لَفِي شَكٌّ مِنْهُ مُرِيبٍ} بإثبات الشكّ لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلاً وخيّل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب} والمعنى: أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه [الصلاة و] السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب، يعني: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه، ثم قال: {لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ} أي ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما مضى -من آيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات- سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين إلى أن ختم ذلك بذم من عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم، وكان صلى الله عليه وسلم كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله: {فإن كنت} أي يا أرحم الخلق {في شك} ولم يرد بهذا الكلام حقيقته -والله أعلم- بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا، وذلك بأحد أمرين: إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم -وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية- فالمعنى: أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك {ولا ينبئك مثل خبير} فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك {فإن كنت} أي في وقت من الأوقات {في شك} أي ولو قل {ممآ أنزلنآ} أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة {إليك} في ذلك {فسئل} أي بسبب ذلك الشك {الذين يقرءون} أي متتابعين لذلك {الكتاب} أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم. ومن آمن منهم أو كان منصفاً جديرا بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وهم عن ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح إلى سؤال غيري، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه: {لقد جآءك الحق} أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك باصطفائك لذلك، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه، فناسب اتباعه بقوله: {فلا تكونن} أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه {من الممترين} أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده، وكونه لا مجال للامتراء فيه، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة، على حد: إياك أعني واسمعي يا جاره.
{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} أي فإن كنت أيها الرسول في شك مما أنزلنا إليك في هذه الشواهد من قصة موسى ونوح وغيرهما على سبيل الفرض والتقدير، الذي ذكر على عادة العرب في تقدير الشك في الشيء ليبني عليه ما ينفي احتمال وقوعه أو ثبوته أمرا أو نهيا أو خبرا، كقول أحدهم لابنه: إن كنت ابني فكن شجاعا، أو فلا تكن بخيلا، أو فإنك ستكون، أو ستفعل كذا؛ بل يفرضون سؤال الديار والأطلال أيضا، ومنه قول المسيح في جواب سؤال الله تعالى إياه {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وهذه الجملة الشرطية محل الشاهد، فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقل ذلك، ولكنه يفرضه ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله منه.
وبعض العلماء يجري على هذا الأسلوب، فيشكك تلميذه أو مناظره فيما لا شك فيه عندهما ليبني عليه حكما آخر. ويجب في مثل هذا أن يكون فعل بالشرط بأن التي وضعت للدلالة على عدم وقوعه أو تنزيله منزلة ما لا يقع، دون إذا الدالة على أن الأصل في فعل شرطها الوقوع.
{فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} هذا جواب الشرط المقدر. قال ابن عباس: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، وروي مثله عن سعيد بن جبير والحسن البصري قالاه فهما لغويا، وروي عن قتادة خبرا قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا أشك ولا أسأل"، ولم يسم الصحابي الذي ذكره، فهو مرسل، والمراد بالكتاب جنسه، أي فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى، فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك من الشواهد حق لا يستطيعون إنكاره، وقال بعض المفسرين: إن المراد سؤال من آمن منهم، كعبد الله بن سلام من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، ولا حاجة إليه، والآية بل السورة نزلت في مكة، ولم يكن أحد من أهل الكتاب آمن.
ومما يؤكد كون السؤال فرضا قوله: {لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} فهذه الشهادة المؤكدة بالقسم من ربه، تجتث احتمال إرادة الشك والسؤال بالفعل من أصله، ويزيدها تأكيدا قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من فريق الشاكين الذين يحتاجون إلى السؤال، وهذا النهي والذي بعده يدلان على أن فرض وقوع الشك والسؤال فيما قبلهما عنه تعريض بالشاكين والممترين والمكذبين له صلى الله عليه وسلم من قومه.