مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (94)

قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم }

اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة ، فقال تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي الشك في وضع اللغة ، ضم بعض الشيء إلى بعض ، يقال : شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض . ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء ، لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي يضمون ، وشك الرجل في السلاح ، إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها ، فإذا قالوا : شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوز هذا ، ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه .

المسألة الثانية : اختلف المفسرون : في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو ؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام . وقيل غيره ، أما من قال بالأول : فاختلفوا على وجوه .

الوجه الأول : أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر ، والمراد غيره كقوله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } وكقوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وكقوله : { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جارة .

والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه : الأول : قوله تعالى في آخر السورة { يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز ، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح . الثاني : أن الرسول لو كان شاكا في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية . والثالث : أن بتقدير أن يكون شاكا في نبوة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار ، وإن حصل فيهم من كان مؤمنا إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل ، فالكل مصحف محرف ، فثبت أن الحق هو أن الخطاب ، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة ، ومثل هذا معتاد ، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميرا عليهم ، ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم .

الوجه الثاني : أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك ، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام ، فإنه يصرح ويقول :

« يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة » ونظيره قوله تعالى للملائكة : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا : { سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } وكما قال لعيسى عليه السلام : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا .

الوجه الثالث : هو أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان من البشر ، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات ، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات ، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ، ونظيره قوله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك } وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله : { فإن كنت في شك } فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع أو لم يقع ، ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع ، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط ، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، فهو كلام حق ، لأن معناه أن كون الخمسة زوجا يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية ، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا ، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع ، فليس في الآية دلالة عليه ، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة .

والوجه الرابع : في تقرير هذا المعنى أن تقول : المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان ، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى ، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات ، وذلك الاستحياء صار مانعا لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى : { فإن كنت في شك } من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل ، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلا على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان ، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى ، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات .

الوجه الخامس : أن يكون التقدير أنك لست شاكا البتة . ولو كنت شاكا لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعا ، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا . ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة .

الوجه السادس : قال الزجاج : إن الله خاطب الرسول في قوله : { فإن كنت في شك } وهو شامل للخلق وهو كقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } قال : وهذا أحسن الأقاويل ، قال القاضي : هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلا تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال ، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره ، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ، ثم قال : ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل .

الوجه السابع : هو أن لفظ { إن } في قوله : { إن كنت في شك } للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقينا .

وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة ، المصدقون به . والمكذبون له . والمتوقفون في أمره الشاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته ، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع ، كما في قوله : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك } و{ يأيها الإنسان إنك كادح } وقوله : { فإذا مس الإنسان ضر } ولم يرد في جميع هذه الآيات إنسانا بعينه ، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال : { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين } .

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المسئول منه في قوله : { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب } من هم ؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم ، ومنهم من قال : الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار ، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤوا آية من التوراة والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض .

فإن قيل : إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير ، فكيف يمكن التعويل عليها .

قلنا : إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام . فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام . لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور ، وأما أن المقصود من ذلك السؤال معرفة أي الأشياء ، ففيه قولان : الأول : أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } والأول أولى ، لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم . واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده : { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك ، وانتفاء التكذيب بآيات الله ، ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله « لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق »