فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (94)

{ فإن كنت } يا محمد { في شك } هو في أصل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ، ومنه شك الجوهر في العقد والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر بخلافه فيتردد ويتحير ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع .

وعن ابن عباس قال : لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل ونحوه عن سعيد ابن جبير والحسن والبصري وعن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا أشك ولا أسأل وهو مرسل .

{ مما } أي في شك ناشئ مما { أنزلنا إليك } بأن تشك فيه ، ومن للابتداء أو أنها بمعنى في من أول الأمر ، قال القاضي : عياض في الشفاء : احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه فمثل هذا لا يجوز عليه 1ه .

وقال ثعلب والمبرد : أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك { فاسأل الذين يقرون الكتاب من قبلك } يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم أعلم منهم ، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا ، وإن هذا رسوله وإن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم والمراد إظهار نبوته عليه السلام بشهادة الإخبار وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر .

قال الزجاج : إن الله خاطب الرسول وهو شامل للخلق ، وهذا وجه حسن أيضا لكم فيه بعد لأن الرسول متى كان داخلا في هذا الخطاب كان الإيراد موجودا والاعتراض واردا .

وقيل إن في قوله : { فإن } للنفي أي ما أنت في شك حتى تسأل وهذا أبعد .

وقال القتيبي : المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتصديقه بل كان في شك ، وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره والمعنى لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك وقيل الشك هو ضيق الصدر أي أن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل يخبرونك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم .

وقيل معنى الآية : الفرض والتقدير كأنه قال له فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا ، فاسأل فإنهم سيخبرونك عن نبوءتك وما نزل عليك ، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم ، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضيا للكتم عندهم .

{ لقد } أي أقسم لقد { جاءك الحق من ربك } وفي هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به جملته ، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة .

ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فقال { فلا تكونن من الممترين } فيما أنزل الله عليه بل تستمر على ما أنت عليه من اليقين وانتفاء الشك ، ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضا لغيره كما في مواطن الكتاب العزيز وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب في قوله تعالى { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } فإن الظاهر فيه التعريض ولا سيما بعد تعقيبه بقوله : { فتكون من الخاسرين } وفي هذا التعريض من الزجر للمترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم لأنه إذا كان ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه فكيف بمن يمكن منه ذلك .