قوله تعالى : { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك } قال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجدوا فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ، وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أماً للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم ، قالت لفرعون وهي قاعدة على جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي ولك ، { لا تقتلوه } وروي أنها قالت له : إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل ، { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون } أن هلاكهم على يديه ، فاستحياه فرعون ، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته : عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه ، قال وهب قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية : عسى أن ينفعنا ، لنفعه الله ، ولكنه أبى ، للشقاء الذي كتبه الله عليه .
فلما التقطه آل فرعون ، حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " وَقَالَتِ " هذا الولد { قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ } أي : أبقه لنا ، لِتقرَّ به أعيننا ، ونستر به في حياتنا .
{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي : لا يخلو ، إما أن يكون بمنزلة الخدم ، الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا ، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك ، نجعله ولدا لنا ، ونكرمه ، ونجله .
فقدَّر اللّه تعالى ، أنه نفع امرأة فرعون ، التي قالت تلك المقالة ، فإنه لما صار قرة عين لها ، وأحبته حبا شديدا ، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله ، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به ، رضي اللّه عنها وأرضاها .
قال اللّه تعالى هذه المراجعات [ والمقاولات ] في شأن موسى : { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } ما جرى به القلم ، ومضى به القدر ، من وصوله إلى ما وصل إليه ، وهذا من لطفه تعالى ، فإنهم لو شعروا ، لكان لهم وله ، شأن آخر .
وقوله - سبحانه - : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً . . } بيان لما أنطق الله به امرأة فرعون للدفاع عن موسى - عليه السلام - .
قال الجمل : وامرأة فرعون هى : آسيا بنت مزاحم ، وكانت من خيار النساء ، ومن بنات الأنبياء ، وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم .
ويكفى فى مدحها قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } أى : وقالت امرأة فرعون بعد أن أخرج موسى من التابوت ، ورأته بين أيدى فرعون وآله : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } أى : هذا الطفل هو قرة عين لى ولك ، أى : هو محل السرور والفرح لعينى ولعينك يا فرعون .
فالجملة الكريمة كناية عن السرور به ، إذ لفظ { قُرَّةُ } مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار ، وذلك لأن العين إذا رأت ما تحبه ، استقر نظرها عليه ، وانشغلت به عن غيره .
ثم أضافت إلى ذلك قولها { لاَ تَقْتُلُوهُ } والخطاب لفرعون وجنده .
ثم عللت النهى عن قتله بقولها : { عسى أَن يَنْفَعَنَا } فى مستقبل حياتنا ، فنجنى من ورائه خيرا .
{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } لنا ، فإن هيئته وصورته تدل على النجابة والجمال واليمن وهكذا شاءت إرادة الله - تعالى - ، أن تجعل امرأة فرعون ، سببا فى إنقاذ موسى من القتل ، وفى أن يعيش فى بيت فرعون ، ليكون له فى المستقبل عدوا وحزنا .
وقوله - تعالى - : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية ، أى : فعلوا ما فعلوا والحال أنهم لا يشعرون أن هلاكهم سيكون على يديه .
والظاهر أن هذه الجملة من كلام الله - تعالى - ، وليست حكاية لما قالته امرأة فرعون .
وقالت امرأة فرعون : قرة عين لي ولك ، لا تقتلوه ، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ؛ وهم لايشعرون . .
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته ، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه . لقد حمته بالمحبة . ذلك الستار الرقيق الشفيف . لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال . حمته بالحب الحاني في قلب امرأة . وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره . . وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف !
وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم - فيما عدا المرأة - عدوا وحزنا ! ( لا تقتلوه ) . .
وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده !
( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) . .
وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا !
فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون !
واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون { قرة عين لي ولك } ، فقالت فرقة : كان ذلك عند التقاط التابوت لما أشعرت فرعون به سبق إلى وهمه أنه من بني إسرائيل وأن ذلك قصد به ليخلص من الذبح فقال عليّ بالذباحين فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون : أما لي فلا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له » ، {[9112]} وقال السدي : بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ بذبحه وحينئذ خاطبته بهذا وجربته له في الجمرة والياقوتة فاحترق لسانه وعلق العقدة ، وقوله { لا يشعرون } أي بأنه الذي يفسد الملك على يديه قال قتادة وغيره ، وقرأ ابن مسعود «لا تقتلوه قرة عين لي ولك » قدم وأخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت امرأت فرعون} واسمها آسية بنت مزاحم، عليها السلام: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه}... {عسى أن ينفعنا} فنصيب منه خيرا {أو نتخذه ولدا} يقول الله عز وجل: {وهم لا يشعرون} أن هلاكهم في سببه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ" له هذا "قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ "يا فرعون... وقوله: "لا تَقْتُلُوهُ" مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله...
وقوله: "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وهم لا يشعرون هلاكهم على يده... وقال آخرون: بل معنى ذلك: "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بما هو كائن من أمرهم وأمره...وقال آخرون: بل معنى قوله "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بنو إسرائيل لا يشعرون أنّا التقطناه...
والصواب من القول في ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وفرعون وآله لا يشعرون بما هو كائن من هلاكهم على يديه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به لأنه عُقَيب قوله: "وَقالَتِ امْرأةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا" وإذا كان ذلك عقبه، فهو بأن يكون بيانا عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بيانا عن غيره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنه بردها بالسرور، مأخوذ من القر وهو البرد.
الثاني: أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن، مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره، أخبر عما قيل عند التقاطه فقال عاطفاً على {فالتقطه}: {وقالت امرأة فرعون} أي لفرعون لما أخرجته من التابوت، وهي التي قضى الله أن يكون لها سعادة، وهي آسية بنت مزاحم...
ولما أثبت له أنه ممن تقر به العيون، أنتج ذلك استبقاءه، ولذلك نهت عن قتله وخافت أن تقول: لا تقتله، فيجيبها حاملاً له على الحقيقة ثم يأمر بقتله، ويكون مخلصاً له عن الوقوع في إخلاف الوعد، فجمعت قائلة: {لا تقتلوه} أي أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك أو استأنفت فقالت: {عسى} أي يمكن، وهو جدير وخليق {أن ينفعنا} أي لما أتخيل فيه من النجابة ولو كان له أبوان معروفان {أو نتخذه ولداً} إن لم يعرف له أبوان، فيكون نفعه أكثر، فإنه أهل لأن يتشرف به الملوك.
ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم، فلا يصح كونه إلهاً، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال: {وهم} أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم {لا يشعرون} أي لا شعور لهم أصلاً، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، ونكرمه، ونجله. فقدَّر اللّه تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، التي قالت تلك المقالة، فإنه لما صار قرة عين لها، وأحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به، رضي اللّه عنها وأرضاها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة. ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف! (قرة عين لي ولك).. وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم -فيما عدا المرأة- عدوا وحزنا! (لا تقتلوه).. وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده! (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا).. وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا! (وهم لا يشعرون).. فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و (قرة العين) كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء: أسخن الله عينه... أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا: قرة عين، وأقر الله عينه، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو {قرة عين}، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39].