معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

قوله تعالى :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب } لا تخاصموهم ، { إلا بالتي هي أحسن } أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم ، { إلا الذين ظلموا منهم } أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن يسار ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : { كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " .

أخبرناا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر بن الزهري ، أنبأنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : " أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

{ 46 } { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق وتحسينه ، ورد عن الباطل وتهجينه ، بأقرب طريق موصل لذلك ، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ، إلا من ظلم من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصده وحاله ، أنه لا إرادة له في الحق ، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة ، فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع .

{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد ، ولا تكن مناظرتكم إياهم [ على وجه ] يحصل به{[626]} القدح في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر ، فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحق ، ولا يرد الحق لأجل قوله ، ولو كان كافرا . وأيضا ، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به ، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب ، وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام .

فأما أن يقال : نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله ، فهذا ظلم وجور ، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب ، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه من التوراة ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن .

وأيضا ، فإن كل طريق تثبت به{[627]} نبوة أي : نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن مثلها أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره ، فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر .

وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون مستسلمون لأمره . ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ورسله ، وانقاد للّه واتبع رسله ، فهو السعيد ، ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي .


[626]:- في أ: بها.
[627]:- وفي ب: بها.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله والمؤمنين . أن يجادلوا أهل الكتاب بالتى هى أحسن ، ما داموا لم يرتكبوا ظلماً ، وأقام - سبحانه - الأدلة على أن هذا القرآن من عنده وحده ، فقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ . . . إِلاَّ الظالمون } .

والمجادلة : المخاصمة . يقال : جادل فلانٌ فلاناً : إذا خاصمه ، وحرص كل واحد منها على أن يغلب صاحبه بقوة حجته . أى : ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - غيركم من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، إلا بالطريقة التى هى أحسن ، بأن ترشدوهم إلى طريق الحق بأسلوب لين كريم ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } استثناء من الذين يجادلون بالتى هى أحسن .

أى : ناقشوهم وأرشدوهم إلى الحق بالتى هى أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم . بأن أساءوا إليكم ، ولم يستعملوا الأدب فى جدالهم ، فقابلوهم بما يليق بحالهم من الإِغلاظ والتأديب .

وعلى هذا التفسير يكون المقصود بالآية الكريمة ، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى فى مجادلتهم لأهل الكتاب عموماً . ما عدا الظالمين منهم فعلى المؤمنين أن يعاملوهم بالأسلوب المناسب لردعهم وزجرهم وتأديبهم .

وقيل : المرد بأهل الكتاب هنا : المؤمنون منهم ، والمرد بالذين ظلموا : من بقى على الكفر منهم .

فيكون المعنى : ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - من آمن من أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن ، إلا لاذين بقوا على كفرهم فعاملوهم بما يليق بحالهم من التأديب والإِغلاظ عليهم .

ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأرجح والأظهر ، لأن الآية مسوقة لتعليم المؤمنين كيف يجادلون من بقى على دينه من أهل الكتاب ، ولأن من ترك كفره منهم ودخل فى الإِسلام أصبح مسلما وليس من أهل الكتاب ، وما دام الأمر كذلك فليس المسلمون فى حاجة إلى إرشادهم إلى كيفية مجادلته ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } يرجح أن المراد بأهل الكتاب هنا من بقى على دينه منهم .

أى : جادلوهم بالطريقة الحسنى ما داموا لم يظلموكم ، وقولوا لهم على سبيل التعليم والإِرشاد { آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو القرآن ، وآمنا بالذى أنزل إليكم من التوراة والإِنجيل .

قال الشوكانى : أى : آمنا بأنهما منزلان من عند الله ، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإِسلامية ، والبعثة المحمدية ولا يدخل فى ذلك ما حرفوه وبدلوه .

{ وإلهكم وَاحِدٌ } لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته { وَنَحْنُ } جميعاً معاشر المؤمنين { لَهُ مُسْلِمُونَ } أى : مطيعون وعابدون له وحده ، ولا نتخذ أربابا من دونه - عز وجل - .

قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب . . . } فقال مجاهد : هى محكمة ، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن ، على معنى الدعاء لهم إلى الله - عز وجل - ، والتنبيه على حججه وآياته . . وقوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أى ظلموكم . .

وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال وهى قوله :

{ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله . . } وقول مجاهد : حسن ، لأن أحكام الله - عز وجل - لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخير يقطع العذر ، أو حجة من معقول . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

46

( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون ) . .

إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .

هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .

ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . ( إلا الذين ظلموا منهم )فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .

وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .

وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، و إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون . .

وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

قرأ الجمهور «إلا » على الاستثناء ، وقرأ ابن عباس «ألا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية ، فقال ابن زيد : معناها «لا تجادلوا » من آمن بمحمد من { أهل الكتاب }{[9260]} فكأنه قال { أهل الكتاب } المؤمنين { إلا بالتي هي أحسن } أي الموافقة فيا حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك ، وقوله تعالى على هذا التأويل { إلا الذين ظلموا } يريد به من بقي على كفره منهم ، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم ، والآية على هذا محكمة غير منسوخة ، وقال مجاهد : المراد ب { أهل الكتاب } اليهود والنصارى الباقون على دينهم أمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم { إلا بالتي هي أحسن } من الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته ، وأن يزال معهم عن طريق الإغلاظ والمخاشنة ، وقوله على هذا التأويل { إلا الذين ظلموا } معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم يؤد جزية الحرب ، ومن قال وصرح بأن لله ولداً أو له شريك أو يده مغلولة ، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قال قتادة هي منسوخة بقول الله تعالى { قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله }{[9261]} [ التوبة : 29 ] .

قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية ، وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك ، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب ، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة ، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل ، وإما بقول ، وإما بإذاية محمد صلى الله عليه وسلم ، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا ، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن التي هي أحسن ، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال والجزية وهذا قول قتادة وقوله تعالى : { وقولوا آمنا } الآية ، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }{[9262]} » وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل »{[9263]} .


[9260]:كعبد الله بن سلام ومن آمن معه.
[9261]:من الآية 29 من سورة التوبة.
[9262]:أخرجه البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، (الدر المنثور)، وفي تفسير ابن كثير بعد أن نقل رواية البخاري للحديث: "وهذا الحديث تفرد به البخاري".
[9263]:أخرجه ابن جرير عن عبد الله، قال ابن كثير: "وهو ابن مسعود" – وفي آخره زيادة على ما هنا: (فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال). وفي الدر المنثور: أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود، وزاد في آخره على ما هنا: (فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه). وأخرج البيهقي في سننه وفي الشعب، والديلمي، وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حديثا بنفس اللفظ الذي أخرجه ابن عطية هنا، وزاد في آخره: (والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)، قال ذلك الإمام السيوطي في الدر المنثور.