قوله تعالى : { وظللنا عليكم الغمام } . في التيه يقيكم حر الشمس ، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل الله تعالى غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر ، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن لهم قمر .
قوله تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } . أي في التيه ، الأكثرون على أن المن هو الترنجبين ، وقال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد ، وقال وهب : هو الخبز الرقاق ، قال الزجاج : جملة المن ما يمن الله به من غير تعب .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم ، أنا أبو سفيان ، عن عبد الملك هو ابن عمير ، عن عمرو بن حريث ، عن سعيد بن زيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .
قالوا فكان المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج ، لكل إنسان منهم صاع ، فقالوا : يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم . فأنزل الله تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني ، وقيل : هو السماني بعينه ، بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء ، بعضه على بعض .
وقال المؤرخ : السلوى : العسل ، فكان الله ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت .
قوله تعالى : { كلوا } . أي : وقلنا لهم : كلوا .
قوله تعالى : { من طيبات } . حلالات .
قوله تعالى : { ما رزقناكم } . ولا تدخروا لغد ، ففعلوا ، فقطع الله ذلك عنهم ، ودود وفسد ما ادخروا ، فقال الله تعالى : { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . أي وما بخسوا بحقنا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي ، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ، ولم يختز اللحم ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر " .
ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق ، فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب ، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك .
{ وَالسَّلْوَى } طائر صغير يقال له السماني ، طيب اللحم ، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين ، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب .
{ وَمَا ظَلَمُونَا } يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين ، كما لا تنفعه طاعات الطائعين ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فيعود ضرره عليهم .
ثامناً : نعمة تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم :
ثم عطف - سبحانه - على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين ، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى ، فقال تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
الغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة ، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض .
والمن : اسم جنس لا واحد من لفظه ، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة الغسل .
والسلوى : اسم جنس جمعي ، واحدته سلواة ، وهر طائر بري لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسماني ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء ، فيمسكونه قبضاً بدون تعب .
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة النجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل الله عليهما الغمام . قالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى . . . }
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ، وحرارة الجو ، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهي بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم ، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم ، ولكنكم كفرتم بها ، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء ، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني .
فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف ، أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر .
ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير ، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل .
والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كانوا } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه : ( هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك ، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أي : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل ) .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام بإنزال المن والسلوى عليهم ، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ، ولذا أرسل الله عليهم رجزاً من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم .
ويذكرهم برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم طعاما شهيا لا يجهدون فيه ولا يكدون ، ووقاهم هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره اللطيف :
( وظللنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم . وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
وتذكر الراويات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من الهاجرة . والصحراء بغير مطر ولا سحب ، جحيم يفور بالنار ، ويقذف بالشواظ . وهي بالمطر والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح . . وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم ( المن ) يجدونه على الأشجار حلوا كالعسل ، وسخر لهم ( السلوى ) وهو طائر السماني يجدونه بوفرة قريب المنال . وبهذا توافر لهم الطعام الجيد ، والمقام المريح ، وأحلت لهم هذه الطيبات . . ولكن أتراهم شكروا واهتدوا . . إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا . وإن كانت عاقبة ذلك عليهم ، فما ظلموا إلا أنفسهم !
{ وظللنا عليكم الغمام } سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه .
{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى } الترنجبين والسماني . قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى . { كلوا من طيبات ما رزقناكم } على إرادة القول .
{ وما ظلمونا } فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره .