معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

قوله تعالى : { يخادعون الله } أي يخالفون الله ، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من الله في قوله ( وهو خادعهم ) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة . وقيل : أصل الخدع : الفساد ، معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر . وقوله : ( وهو خادعهم ) أي : يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة . فإن قيل ما معنى قوله ( يخادعون الله ) والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة قيل : قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً ، وطارقت النعل . وقال الحسن : معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ) أي : أولياء الله ، وقيل : ذكر الله هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى ( فأن لله خمسه وللرسول ) وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم .

قوله تعالى : { والذين آمنوا } . أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم : آمنا وهم غير مؤمنين .

قوله تعالى : { وما يخدعون } . قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو : وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد ، وقرأ الباقون : وما يخدعون على الأصل .

قوله تعالى : { إلا أنفسهم } . لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى .

قوله تعالى : { وما يشعرون } . أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون ، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، فإن{[39]}  هذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد{[40]}  أو يسلم ، لا له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم ، وكأنهم{[41]}  يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ، لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون ، لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة .

ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك .


[39]:- في ب: وهذا.
[40]:- في ب: ويحصل له مقصوده.
[41]:- في ب: عاد خداعهم على أنفسهم فكأنهم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

ثم بين - سبحانه - الدوافع التي دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } .

والخدع في أصل اللغة : الإِخفاء والإِبهام ، يقال خدعه - كمنعه - خدعا ، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم ؛ وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر . وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويفوزوا بسهم من الغنائم ، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع ، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة ، ولا يجوز حملها على الحقيقة ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين ؛ بل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ }

أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم في العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر .

وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف ، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة ، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين ، يثير في نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحالة المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب ، فكان الجواب : إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين ، جهلا منهم بصفات خالقهم .

وقال القرآن : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } . ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الحكمة في ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله ، لأنه هو الذي بعثه إليهم ، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقال - تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } .

الأنفس : جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته . وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك .

ويشعرون : مضارع شعر بالشيء - كنصر وكرم - يقال : شعر بالشيء أي : فطن له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها .

والشعور : العلم الحاصل بالحواس ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسه . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون ، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين ، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم ولكنهم لا يشعرون بذلك . لأن ظلام الغي خالط قلوبهم ، فجعلهم عديمي الشعور ، فاقدى الحس .

وأتى بجملة " وما يخدعون إلا أنفسهم " بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر ، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك ، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه . ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم ، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها ، ولم يستعملوها فيما خلقت له ، فكانوا كالفاقدين لها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

1

يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )

وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون :

( يخادعون الله والذين آمنوا ) . .

وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ !

وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .

وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .

ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ) . .

إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول : وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .

ومن القراء من قرأ : " وَمَا يُخَادِعُونَ{[1257]} إِلا أَنفُسَهُمْ " ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد .

قال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟

قيل : لا تمتنع{[1258]} العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر{[1259]} بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء{[1260]} والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها ، ويُسقيها كأس{[1261]} سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومُجرّعها بها كأس عذابها ، ومُزيرُها{[1262]} من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به ، فذلك خديعته نفسه ، ظنًا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم{[1263]} عليها ربهم بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون{[1264]} .

وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا عليّ بن المبارك ، فيما كتب إليّ ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جُرَيْج ، في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } قال : يظهرون " لا إله إلا الله " يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك{[1265]} .

وقال سعيد ، عن قتادة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير : خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها .

/خ20


[1257]:في جـ، ط، ب: "يخدعون".
[1258]:في جـ: "لا تمنع".
[1259]:في أ، و: "ما أظهره".
[1260]:في أ: "السبي".
[1261]:في جـ: "بكأس".
[1262]:في أ: "ويزيدها".
[1263]:في جـ: "بإسخاطهم".
[1264]:تفسير الطبري (1/273).
[1265]:تفسير ابن أبي حاتم (1/46).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يخادعون الله } .

فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً( {[211]} ) لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه » .

وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك » .

واختلف القراء في يخادعون الثاني .

فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون » .

وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون » .

وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يُخدعون » بضم الياء( {[212]} ) .

وقرأ قتادة ومورق العجلي( {[213]} ) : «يُخَدِّعون » بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها . فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر( {[214]} ) : [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .

ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا . . . فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا

فجعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل( {[215]} ) .

وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين . وقد قال الشاعر( {[216]} ) : [ الكميت ] [ الطويل ] .

تذكر من أَنَّى ومن أين شربه . . . يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل

وأنشد ابن الأعرابي( {[217]} ) : [ المنسرح ]

لم تدر ما لا ولست قائلها . . . عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في . . . ها وفي أختها ولم تكد

وقال الآخر( {[218]} ) :

يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ . . . أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها

وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [ الطويل ]

وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ . . . تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني( {[219]} )

ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل » بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خِدع » بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها . ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين : إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : { واختار موسى قومه }( {[220]} ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وإما أن يكون «يخدعون » أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم( {[221]} ) ، ونحوه قول الله تعالى : { ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }( {[222]} ) [ البقرة : 187 ] ولا تقول رفثت إلى المرأة ، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى }( {[223]} ) [ النازعات : 18 ] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجذ بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [ الرجز ] :

كيف تراني قالباً مجني . . . قد قتل الله زياداً عنّي( {[224]} )

لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف . ومنه قول الآخر( {[225]} ) : [ نحيف العامري ] : [ الوافر ]

إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ . . . لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها

لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي( {[226]} ) .

وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها »( {[227]} ) .

ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله .

قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل( {[228]} ) إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل .

وقوله تعالى : { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني .

وقولهم : «ليت شعري » معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ المنخل الهذلي ] .

عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ . . . ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح( {[229]} )

واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له( {[230]} ) ؟ فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار » .

وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا » .


[211]:- من حيث أن مخادعة الرسول مخادعة لله- ومطاوعة الرسول مطاوعة لله سبحانه وتعالى.
[212]:- أي وفتح الدال على معنى وما (يُخْدَعُونَ) إلى عن أنفسهم.
[213]:- بضم أوله وكسر المهملة هو ابن مشمرخ كمدحرج، يروي عن عمر وأبي ذر وأبي الدرداء، ويروي عنه مجاهد وقتادة، مات في ولاية عمر بن هبيرة.
[214]:- هو عمر بن كلثوم، والبيت من معلقته، وقوله: فنجهل المراد أننا ننتصر على كل من جهل علينا، وعبر عن ذلك بالجهل لمجانسة ما قبله وإلا فلا يفخر عاقل بالجهل.
[215]:- المطارقة: النعل المخصوفة، والخصف في النعل كالرقع للثوب.
[216]:- هو الكميت كما في لسان العرب، والآبل اسم فاعل من أبِل كفِرح إذا أحسن رعية الإبل وقام بأمرها.
[217]:- في "لسان العرب": وأنشد الطوسي: (لم تدر ما لا ولست قائلها) الخ، وابن الأعرابي هو محمد بن زياد أبو عبد الله، توفي بسامرا سنة 231هـ، وكان إليه المنتهى في معرفة لسان العرب، والطوسي ممن أخذ عنه.
[218]:- ذكر ابن دُريْدٍ، عن أبي عثمان صاحب معاني الشعر، أنه لرجل من بني فزارة، وقوله: يؤامر نفسه إلخ... فيه جعل النفس المميزة نفسين، وذلك أن النفس قد تأمر بالشيء وتنهى عنه، وهذا عند الإقدام على أمر مكروه، فجعلوا التي تأمر نفسا، وجعلوا التي تنهى كأنها نفس أخرى وعلى هذا قول الشاعر، ويقال: فلان يؤامر نفسه إذا اتجه له رأيان. والذوبان جمع ذئب يقال لصعالك العرب ولصوصها، لأنهم كالذئاب، وأصل الدوبان بالهمز فخفف فانقلب واوا.
[219]:- يقال ضنأت المرأة تَضْنا ضَنْئا كثر ولدها، فهي ضانئة أي كثيرة الأولاد وهو لعبد الله بن الزبير الأسدي.
[220]:- من الآية (155) من سورة الأعراف.
[221]:- والقاعدة المتعارفة أن الفعل إذا تضمن معنى فعل جاز أن يعمل عمله كما تقول طرحت بالرداء إذا ضمنته رميت به، وإلا فـ(طرح) يتعدى بنفسه. والوجه الأول أحسن.
[222]:- من الآية 187 من سورة البقرة.
[223]:- من الآية 18 من سورة النازعات.
[224]:- في بعض الروايات: كيف تراني قالبا مجَنِّي أضربُ أمري ظهره لبطني قد قتل الله زياداعني والمراد زياد بن أبيه، وهذه الزيادة منقولة من كتاب النقائض والشاهد أنه عدى الفعل (قتل)، (عن).
[225]:- قائله قحيف بن خمير شاعر إسلامي مقل، تشبب بخرقاء التي تشبب بها ذو الرمة، وبعد البيت: ولا تنْبُو سيوف بني قشير ولا تمضي الأسنَّة في صفاها
[226]:- لعل الصواب أن يقول: لما كان (رضي) قد تضمن معنى (أقبل).
[227]:- بمعنى أنه يتعدى بما يتعدى به نقيضه. والقاعدة أن الشيء يحمل على النقيض كما يحمل على النظير، ومن ذلك قوله تعالى: [تُسِرون إليهم بالمودة] فهو محمول على نقيضه وهو الجهر أو على نظيره وهو المخافتة، فيوصل بما يوصلان به، وقد قال الله تعالى: [ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها] ولولا ذلك لما جاز وصل تُسِرون بالباء لأنها تتعدى بنفسها فيقال: (أسررت الحديث إسرارا) أخفيته.
[228]:- بابها الغالب أن تكون من اثنين بحيث يفعل كل منهما بصاحبه ما يفعله صاحبه به، مثل خاصمته، وحاربته، وقد تكون المفاعلة من واحد لكن بينه وبين غيره نحو عاقبت اللص، فهي محمولة على الفعل الثلاثي، وبذلك يعلم أن المفاعلة إن كانت من اثنين كانت من كل واحد. وإن كانت بينهما كانت من أحدهما.
[229]:- هو للمتنخل الهذلي، وهو مالك، بن عمرو، بن سويد، اللحياني، ومعنى عقُّوا: رموا بسهم نحو الهواء إشعارا منهم أنهم قد قبلوا الدية، ورضوا بها عوضا عن الدم، والوَضَحُ اللبن، أي قالوا: حبذا الإبل التي نأخذها بدلا من دم قتيلنا فنشرب لبنها.
[230]:- أي يتفطنوا له.