المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يخادعون الله } .

فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً( {[211]} ) لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه » .

وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك » .

واختلف القراء في يخادعون الثاني .

فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون » .

وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون » .

وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يُخدعون » بضم الياء( {[212]} ) .

وقرأ قتادة ومورق العجلي( {[213]} ) : «يُخَدِّعون » بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها . فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر( {[214]} ) : [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .

ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا . . . فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا

فجعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل( {[215]} ) .

وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين . وقد قال الشاعر( {[216]} ) : [ الكميت ] [ الطويل ] .

تذكر من أَنَّى ومن أين شربه . . . يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل

وأنشد ابن الأعرابي( {[217]} ) : [ المنسرح ]

لم تدر ما لا ولست قائلها . . . عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في . . . ها وفي أختها ولم تكد

وقال الآخر( {[218]} ) :

يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ . . . أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها

وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [ الطويل ]

وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ . . . تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني( {[219]} )

ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل » بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خِدع » بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها . ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين : إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : { واختار موسى قومه }( {[220]} ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وإما أن يكون «يخدعون » أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم( {[221]} ) ، ونحوه قول الله تعالى : { ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }( {[222]} ) [ البقرة : 187 ] ولا تقول رفثت إلى المرأة ، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى }( {[223]} ) [ النازعات : 18 ] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجذ بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [ الرجز ] :

كيف تراني قالباً مجني . . . قد قتل الله زياداً عنّي( {[224]} )

لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف . ومنه قول الآخر( {[225]} ) : [ نحيف العامري ] : [ الوافر ]

إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ . . . لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها

لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي( {[226]} ) .

وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها »( {[227]} ) .

ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله .

قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل( {[228]} ) إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل .

وقوله تعالى : { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني .

وقولهم : «ليت شعري » معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ المنخل الهذلي ] .

عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ . . . ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح( {[229]} )

واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له( {[230]} ) ؟ فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار » .

وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا » .


[211]:- من حيث أن مخادعة الرسول مخادعة لله- ومطاوعة الرسول مطاوعة لله سبحانه وتعالى.
[212]:- أي وفتح الدال على معنى وما (يُخْدَعُونَ) إلى عن أنفسهم.
[213]:- بضم أوله وكسر المهملة هو ابن مشمرخ كمدحرج، يروي عن عمر وأبي ذر وأبي الدرداء، ويروي عنه مجاهد وقتادة، مات في ولاية عمر بن هبيرة.
[214]:- هو عمر بن كلثوم، والبيت من معلقته، وقوله: فنجهل المراد أننا ننتصر على كل من جهل علينا، وعبر عن ذلك بالجهل لمجانسة ما قبله وإلا فلا يفخر عاقل بالجهل.
[215]:- المطارقة: النعل المخصوفة، والخصف في النعل كالرقع للثوب.
[216]:- هو الكميت كما في لسان العرب، والآبل اسم فاعل من أبِل كفِرح إذا أحسن رعية الإبل وقام بأمرها.
[217]:- في "لسان العرب": وأنشد الطوسي: (لم تدر ما لا ولست قائلها) الخ، وابن الأعرابي هو محمد بن زياد أبو عبد الله، توفي بسامرا سنة 231هـ، وكان إليه المنتهى في معرفة لسان العرب، والطوسي ممن أخذ عنه.
[218]:- ذكر ابن دُريْدٍ، عن أبي عثمان صاحب معاني الشعر، أنه لرجل من بني فزارة، وقوله: يؤامر نفسه إلخ... فيه جعل النفس المميزة نفسين، وذلك أن النفس قد تأمر بالشيء وتنهى عنه، وهذا عند الإقدام على أمر مكروه، فجعلوا التي تأمر نفسا، وجعلوا التي تنهى كأنها نفس أخرى وعلى هذا قول الشاعر، ويقال: فلان يؤامر نفسه إذا اتجه له رأيان. والذوبان جمع ذئب يقال لصعالك العرب ولصوصها، لأنهم كالذئاب، وأصل الدوبان بالهمز فخفف فانقلب واوا.
[219]:- يقال ضنأت المرأة تَضْنا ضَنْئا كثر ولدها، فهي ضانئة أي كثيرة الأولاد وهو لعبد الله بن الزبير الأسدي.
[220]:- من الآية (155) من سورة الأعراف.
[221]:- والقاعدة المتعارفة أن الفعل إذا تضمن معنى فعل جاز أن يعمل عمله كما تقول طرحت بالرداء إذا ضمنته رميت به، وإلا فـ(طرح) يتعدى بنفسه. والوجه الأول أحسن.
[222]:- من الآية 187 من سورة البقرة.
[223]:- من الآية 18 من سورة النازعات.
[224]:- في بعض الروايات: كيف تراني قالبا مجَنِّي أضربُ أمري ظهره لبطني قد قتل الله زياداعني والمراد زياد بن أبيه، وهذه الزيادة منقولة من كتاب النقائض والشاهد أنه عدى الفعل (قتل)، (عن).
[225]:- قائله قحيف بن خمير شاعر إسلامي مقل، تشبب بخرقاء التي تشبب بها ذو الرمة، وبعد البيت: ولا تنْبُو سيوف بني قشير ولا تمضي الأسنَّة في صفاها
[226]:- لعل الصواب أن يقول: لما كان (رضي) قد تضمن معنى (أقبل).
[227]:- بمعنى أنه يتعدى بما يتعدى به نقيضه. والقاعدة أن الشيء يحمل على النقيض كما يحمل على النظير، ومن ذلك قوله تعالى: [تُسِرون إليهم بالمودة] فهو محمول على نقيضه وهو الجهر أو على نظيره وهو المخافتة، فيوصل بما يوصلان به، وقد قال الله تعالى: [ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها] ولولا ذلك لما جاز وصل تُسِرون بالباء لأنها تتعدى بنفسها فيقال: (أسررت الحديث إسرارا) أخفيته.
[228]:- بابها الغالب أن تكون من اثنين بحيث يفعل كل منهما بصاحبه ما يفعله صاحبه به، مثل خاصمته، وحاربته، وقد تكون المفاعلة من واحد لكن بينه وبين غيره نحو عاقبت اللص، فهي محمولة على الفعل الثلاثي، وبذلك يعلم أن المفاعلة إن كانت من اثنين كانت من كل واحد. وإن كانت بينهما كانت من أحدهما.
[229]:- هو للمتنخل الهذلي، وهو مالك، بن عمرو، بن سويد، اللحياني، ومعنى عقُّوا: رموا بسهم نحو الهواء إشعارا منهم أنهم قد قبلوا الدية، ورضوا بها عوضا عن الدم، والوَضَحُ اللبن، أي قالوا: حبذا الإبل التي نأخذها بدلا من دم قتيلنا فنشرب لبنها.
[230]:- أي يتفطنوا له.