قوله : " يخادعون " هذه الجملة الفعلية يحتمل أنْ تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو : ما بالهم قالوا : آمنا وما هم بؤمنين ؟
فقيل : يخادعون الله ، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواقعة صلة ل " من " وهي " يقول " ، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع ، فهو نظير قوله : [ الرجز ]
إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا *** تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا{[642]}
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا{[643]}
ف " تؤخذ " بدل اشتمال من " تبايع " ، وكذا " تُلْمِم " بدلٌ من " تَأْتِنَا " . وعلى هذين القولين ، فلا مَحَلّ لهذه الجملة من الإعراب .
والجمل التي لا مَحَلّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي : المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها{[644]} .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ " يقول " تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن ]{[645]} في " بمؤمنين " ، والعامل فيها اسم الفاعل .
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير : " ما زيد أقبل ضاحكاً " ، قال : وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان :
أحدهما : نفي القيد وحده ، وإثبات أصل الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى : أن الإقبال ثابت ، والضحك منتفٍ ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية ، أعني : نفي الخِدَاع ، وثبوت الإيمان .
الطريق الثاني : أن ينتفي القَيْدُ ، فينتفي العامل فيه ، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل ، ولم يضحك ، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً ، أعني : نفي الإيمان والخداع معاً ، بل المعنى على نَفْي الإيمان ، وثبوت الخداع ، ففسد جعلها حالاً من الضمير في " بمؤمنين " .
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال ، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل " مؤمنين " ؟ قال : لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، ثم جعلها حالاً من ضمير " بمؤمنين " ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا .
و " الخداع " أصله : الإخفاءُ ، ومنه الأَخْدَعَان : عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ ، ومنه مخدع البيت ، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً : إذا توارى في جُحْرِه ، وطريق خادع وخديع : إذا كان مخالفاً للمقصد ، بحيث لا يفطن له ؛ فمعنى يخادع{[646]} : أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه .
وقيل : هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَرُوا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر : [ الرمل ]
أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ *** طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ{[647]}
ومعنى " يُخَادعون الله " أي : من حيث الصورة لا من حيث المَعْنَى .
وقيل : لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع .
وقال الزَّمخشري : إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم ، والمعنى : يخادعون الذين آمنوا ، ويكون من باب : أعجبني زيد وكرمه . والمعنى : أعجبني كرم زيد ، وإنَّما ذكر " زيد " توطئةً لذكر كرمه .
وجعل ذلك نظير قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }
[ التوبة : 62 ] ، { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ، وهذا منه غير مُرْضٍ ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة ، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى .
وأما " أعجبني زيد وكرمه " ، فإن الإعجاب أسند إلى " زيد " بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
والمصدر " الْخِدْع " بكسر الخاء ، ومثله : الخديعة .
المشاركة المعنوية نحو : ضارب زيد عمراً .
وموافقة المجرد نحو : " جاوزت زيداً " أي : جُزْتُه .
وموافقة " أفعل " متعدياً نحو : " باعدت زيداً وأبعدته " .
والإغناء عن " أفعل " نحو : " واريت الشيء " .
وعن المجرد نحو : سافرت وقاسيت وعاقبت ، والآية " فَاعَل " فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن .
أما المشاركة فالمُخَادعة منهم لله - تعالى - تقدم معناها ، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا ، وَمُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله - تعالى - فيهم ، وأما كونه بمعنى المُجَرَّد ، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ{[648]} " يَخْدَعُونَ " . وقرأ أبو عمرو والحرميان{[649]} " وَمَا يُخَادِعُونَ " كالأولى ، والباقون " وَمَا يَخْدَعُونَ " ، فيحتمل أن تكون القراءتان بمعنى واحد ، أي : يكون " فَاعَلَ " بمعنى " فَعَل " ، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها ، أعني صدورها من اثنين ، فهم يُخَادعون أنفسهم ، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل ، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك ، فكأنها مُحَاورة بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر : [ المنسرح ]
لَمْ تَدْرِ مَا لاَ ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا *** عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ
وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً *** فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ{[650]}
يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ *** أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا{[651]}
قال الزمخشري{[652]} : الاقتصار ب " خادعت " على وجهه أن يُقَال : عنى به " فعلت " ، إلا أنه على وزن " فاعلت " ، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَالب لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة .
وقرئ{[653]} : " وَمَا يُخَدِّعُونَ " ، ويُخَدَّعَونَ من خَدَّعَ مشدداً .
و " يَخَدِّعُونَ " بفتح الياء والتشديد ؛ الأصل يختدعون ، فأدغم .
وقرئ{[654]} : " وما يُخْدَعُونَ " ، " ويُخَادَعُونَ " على لفظ ما لم يسم فاعله ، وتخريجها على أن الأصل " وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم " فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ : [ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[655]}
" إلا أنفسهم " " إلا " في الأصل حرف استثناء و " أنفسهم " مفعول به ، وهذا استثناء مفرغ ، وهو : عبارة عما افتقر فيه ما قبل " إلا " لما بعدها ، ألا ترى أن " يخادعون " يفتقر إلى مفعول ؟ ومثله : " ما قام إلا زيد " ، ف " قام " يفتقر إلى فاعل ، والتَّام بخلافه ، أي : ما لم يفتقر فيه ما قيل " إلا " لما بعدها ، نحو : قام القوم إلاّ زيداً ، وضربت القوم إلا بكراً ، فقام قد أخذ فاعله ، وضربت أخذ مفعوله ، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي ، أو شبهة كالاستفهام والنهي .
وأن قولهم : قرأت إلاّ يوم كذا ، فالمعنى على نفي مؤول تقديره : ما تركت القراءة إلاَّ يوماً ، هذا ومثله : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }
[ التوبة : 32 ] و{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] .
وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى .
والنَّفسُ : هنا ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، " وَمَا يَشْعُرُونَ " هذه الجملة الفعلية يحتمل ألا يكون لها محلّ من الإعراب ؛ لأنها استئناف ، وأن يكون لها محلّ ، وهو النصب على الحال من فاعل " يخدعون " والمعنى : وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك ، ومفعول " يشعرون " محذوف للعلم به ، تقديره : وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم ، واطّلاع الله عليهم .
والأحسن ألا يقدّر مفعول ؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلَّقه ، والأوّل يسمى حذف الاختصار ، ومعناه : حذف الشيء بدليل .
والثاني يسمى حذف الاقتصار ، وهو حذف الشيء لا لدليل .
والشُّعور : إدراك الشيء من وجه يدقّ ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته .
وقيل : هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعَار ، وهو ثوب يلي الجَسَد ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسّه الخمسة التي يشعر بها .
قال ابن الخطيب : " وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد ، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير ، أو التخلّص منه ، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين ؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة ، كما يوجب المُخَالصة في العبادة " .
فصل في امتناع مخادعة الله تعالى
مخادعة الله - تعالى - ممتنعة من وجهين :
أحدهما : أنه يعلم الضَّمائر والسرائر ، فلا يصح أن يُخَادَع .
والثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم ، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله ، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره ، فلا بُدّ من التأويل ، وهو من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - ذكر نفسه ، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره ، وتعظيم شأنه .
قال : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] .
والمنافقون لما خادعوا [ الله ورسوله ]{[656]} قيل : إنهم يخادعون الله .
الثاني : أن يقال : صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع ، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرةِ صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم ، فأجروا أحكامه عليهم .
فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية
الأول : أنهم ظنوا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان .
الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي - عليه الصلاة والسلام - أَسْرَاره ، والاطِّلاع على أسرار المؤمنين ، فينقلونها إلى الكفار .
الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار ، كالقَتْلِ وغيره .
الرابع : أنهم كانوا يطمعون في أموال الغَنَائم .
فإن قيل : فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخداعهم ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم ؟
قلنا : هو قادر على استئصال " إبليس " وذريته ولكنه - تعالى - أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو .
وقوله : { وما يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم } فيه وجهان :
الأول : أنه - تعالى - يجازيهم على ذلك ، ويعاقبهم عليه ، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم .
والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أن وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا ؛ لأن الله - تعالى - كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ونظائره .