مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

قوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } .

اعلم أن الله تعالى ذكر من قبائح المنافقين أربعة أشياء أحدها : ما ذكره في هذه الآية ، وهو أنهم { يخادعون الله والذين آمنوا } فيجب أن يعلم أولا ما المخادعة ، ثم ثانيا ما المراد بمخادعة الله ؟ وثالثا أنهم لماذا كانوا يخادعون الله ؟ ورابعا أنه المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم ؟

المسألة الأولى : اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة ، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل ، وأصل هذه اللفظة الإخفاء ، وسميت الخزانة المخدع ، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان . وقالوا : خدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا ، وطريق خيدع وخداع ، إذا كان مخالفا للمقصد بحيث لا يفطن له ، ومنه المخدع . وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد ، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه ، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين ؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة ، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة ، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده ، ومنه أخذ التدليس في الحديث ، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع ؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس .

المسألة الثانية : وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى ؟ فلقائل أن يقول : إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين : الأول : أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع ، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعا ، فإذا كان الله تعالى لا يخفى عليه البواطن لم يصح أن يخادع . الثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى ، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لابد من التأويل وهو من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسوله على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه . قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وقال في عكسه { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى . الثاني : أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع ، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم .

المسألة الثالثة : فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه الأول : أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا . الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أسراره ، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلوا إلى أعدائهم من الكفار . الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » . الرابع : أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم ، فإن قيل : فالله تعالى كان قادرا على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كيفية مكرهم وخداعهم ، فلم لم يفعل ذلك هتكا لسترهم ؟ قلنا : إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو . فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح ؟ قلنا قال صاحب الكشاف وجهه أن يقال : عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت ، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ، لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة في أبي حيوة ( يخدعون الله ) ثم قال ( يخادعون ) بيانا ليقول ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل ولم يدعون الإيمان كاذبين . وما نفعهم فيه ؟ فقيل { يخادعون } .

المسألة الرابعة : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ( وما يخادعون ) والباقون ( يخدعون ) وحجة الأولين : مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقا للفظ الأول ، وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين ، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعا لنفسه ، ثم ذكروا في قوله { وما يخدعون إلا أنفسهم } وجهين : الأول : أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن . والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا ، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وقوله { إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم } { أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء } { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا } { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } { إن الذين يؤذون الله ورسوله } وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث . أحدها : قرئ ( وما يخادعون ) من أخدع و ( يخدعون ) بفتح الياء بمعنى يختدعون ( ويخدعون ) و ( يخادعون ) على لفظ ما لم يسم فاعله . وثانيها : النفس ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم . وثالثها : أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس .