الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } : أي يخالفون الله ويُكذّبونه ، وأصل الخدع في اللغة : الإخفاء ، ومنه قيل [ للبيت الذي يُحيا فيه المتاع ] مُخدع ، والمخادع يظهر خلاف ما يُضمر ، وقال بعضهم : أصل الخداع في لغة : الفساد ، قال الشاعر :

أبيض اللون لذيذٌ طعمه *** طيّب الرّيق إذا الريق خدع

أي فسد .

فيكون معناه : ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم ، وقيل معناه : يخادعون الله بزعمهم وفي ظنّهم ، يعني إنهم اجترؤوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون ، وهذا كقوله تعالى : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] يعني بظنّك وعلى زعمك .

وقيل : معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم . وقيل : معناه يخادعون رسوله ، كقوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] أي أسخطونا ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ } [ الأحزاب : 57 ] أي أولياء الله ؛ لأن الله سبحانه لا يؤذي ولا يخادع ، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبياً من أنبيائه وولياً من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه . يدل عليه الخبر المروي : إن الله تعالى يقول : من آذى ولياً من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة .

وقيل : إنّ ذكر الله سبحانه في قوله : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } تحسين وتزيين لسامع الكلام ، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] . ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين ، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة ، وقد يكون أيضاً من واحد كقولك : طارقت النعل ، وعاقبت اللصّ ، وعافاك الله ، قال الله عزّ وجلّ : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] وقال : { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } [ التوبة : 30 ] والمخادعة هاهنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع . { وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم : آمنا ، وهم غير مؤمنين ، وقال بعضهم : من خداعهم المؤمنين : هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم .

قال الله تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم ؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم ، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى .

قال أهل الإشارة : إنما يخادع من لا يعرف البواطن ، فأما من عرف البواطن فإنّ مَنْ خادعه فإنما يخدع نفسه .

واختلف القرّاء في قوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ } فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء : { يخادعون } بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد ، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول ، وقوله : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } لم يختلفوا فيه إلاّ ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ : ( يخدعون الله ) وقرأ الباقون { وما يخدعون } على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد . { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يعلمون إنها كذلك .