البحث الثاني : في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون } .
اعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع . والأخدعان عرفان في العنق خفيان . وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً . والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية . فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً *** إن الحليم ذا الإسلام يختلب
لم يجز أن يخدعوا . قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله -حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون- صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار -صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم- حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم . ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . ويحتمل أن يكون من قولهم " أعجبني زيد وكرمه " فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص . ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] وقولهم " علمت زيداً فاضلاً " الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً . ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة " فاعلت " لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . و{ يخادعون } بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين ؟ فقيل : يخادعون . وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم وإطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم . والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل ؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولاسيما في تفسير قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقراءة من قرأ { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 9 ] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب . وأن يراد { وما يخدعون } فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة . والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.