غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

8

البحث الثاني : في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون } .

اعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع . والأخدعان عرفان في العنق خفيان . وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً . والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية . فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :

تلك الفتاة التي علقتها عرضاً *** إن الحليم ذا الإسلام يختلب

لم يجز أن يخدعوا . قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله -حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون- صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار -صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم- حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم . ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . ويحتمل أن يكون من قولهم " أعجبني زيد وكرمه " فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص . ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] وقولهم " علمت زيداً فاضلاً " الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً . ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة " فاعلت " لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . و{ يخادعون } بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين ؟ فقيل : يخادعون . وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم وإطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم . والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل ؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولاسيما في تفسير قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقراءة من قرأ { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 9 ] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب . وأن يراد { وما يخدعون } فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة . والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .