البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

الخداع : قيل إظهار غير ما في النفس ، وأصله الإخفاء ، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل مخدعاً لتستر أهل صاحب المنزل فيه ، ومنه الأخدعان : وهما العرقان المستبطنان في العنق ، وسمي الدهر خادعاً لما يخفي من غوائله ، وقيل الخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، من قولهم : ضب خادع وخدع إذا أمر الحارث ، وهو صائد الضب ، يده على باب حجره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر ، وهو راجع إلى معنى القول الأول ، وقيل أصله الفساد ، من قول الشاعر :

أبيض اللون لذيذ طعمه *** طيب الريق إذا الريق خدع

أي فسد .

إلا : حرف ، وهو أصل لذوات الاستثناء ، وقد يكون ما بعده وصفاً ، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء .

وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو .

النفس : الدم ، أو النفس : المودع في الهيكل القائم به الحياة ، والنفس ، الخاطر ، ما يدري أي نفسيه يطيع ، وهل النفس الروح أم هي غيره ؟ في ذلك خلاف .

وفي حقيقة النفس خلاف كثير ومجمع على أنفس ونفوس ، وهما قياس فعل الاسم الصحيح العين في جميعه القليل والكثير .

الشعور : إدراك الشيء من وجه يدق مشتق من الشعر ، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار ، وهو ثوب بلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه .

وقراءة الجمهور : يخادعون الله ، مضارع خادع .

وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله ، مضارع خدع المجرد ، ويحتمل قوله : { يخادعون الله } أن يكون مستأنفاً ، كأن قائلاً يقول : لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة ؟ فقيل : يخادعون ، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله : يقول آمنا ، ويكون ذلك بياناً ، لأن قولهم : آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة ، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه ، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب .

ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال ، وذو الحال الضمير المستكن في يقول ، أي : ومن الناس من يقول آمنا ، مخادعين الله والذين آمنوا .

وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً ، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو : بمؤمنين ، وذو الحال : الضمير المستكن في اسم الفاعل .

وهذا إعراب خطأ ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم ، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال ، وهو القيد ، فنفته ، ولذلك طريقان في لسان العرب : أحدهما : وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط ، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد ، فإذا قلت : ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك ، وليس معنى الآية على هذا ، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط ، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع ، بل المعنى : نفي الإيمان عنهم مطلقاً .

والطريق الثاني : وهو الأقل ، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه ، فكأنه قال في المثال السابق : لم يقبل زيد ولم يضحك : أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك .

وليس معنى الآية على هذا ، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع .

والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال : ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين ، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، انتهى كلامه .

فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة ، وهما سواء ، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك ، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه ، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء .

فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر ، قاله جماعة ، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه .

فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة ، أو يكون على حذف مضاف ، أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا ، فتارة يكون المحذوف مراداً وتارة لا يكون مراداً ، بل مخادعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة مخادعة الله ، فجاء : { يخادعون الله } ، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج .

وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه التي ذكرناها ، كما ذكرناها ، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم ، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا ، كما ذهب إليه الزمخشري ، وقال : يكون من باب : أعجبني زيد وكرمه ، المعنى هذا أعجبني كرم زيد ، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه ، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة ، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه ، إن الذين يؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلّم له .

وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها ، إن شاء الله تعالى .

وأما أعجبني زيد وكرمه ، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة ، فصار من المعنى نظيراً لقوله تعالى : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم ، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم .

وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل ، وفاعل يأتي لخمسة معان : لاقتسام الفاعلية ، والمفعولية في اللفظ ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى ، ولموافقة أفعل المتعدي ، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد .

ومثل ذلك : ضارب زيداً عمر ، وباعدته ، وواريت الشيء ، وقاسيت .

وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع ، وكأنه قال : يخدعون الله ، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة ، وقد تقدمت .

ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة ، فمخادعتهم تقدم تفسيرها ، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام ، وإن أبطنوا خلافه ، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم .

وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم ، من تعظيمهم عند المؤمنين ، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم ، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية ، وغير ذلك ، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم .

وقرأ : وما يخادعون ، الحرميان ، وأبو عمرو .

وقرأ باقي السبعة : وما يخدعون .

وقرأ الجارود بن أبي سبرة ، وأبو طالوت عبد السلام بن شداد : وما يخدعون مبنياً للمفعول .

وقرأ بعضهم : وما يخادعون ، بفتح الدال مبنياً للمفعول .

وقرأ قتادة ، ومورق العجلي : وما يخدعون ، من خدّع المشدّد مبنياً للفاعل ، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة .

فهذه ست قراءات توجيه : الأولى : أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع ، بأن ينفعل له فيما يختار ، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له ، ووبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع ، إنما وباله راجع إلى المخادع ، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة ، وهو لا يشعر بذلك جهلاً منه بقبيح انتحاله وسوء مآله .

وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة ، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ، كما قال :

ألا لا يجهلن أحد علينا ***فنجهل فوق جهل الجاهلينا

جعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيء من واحد : كعاقبت اللص ، وطارقت النعل .

ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين ، فهم خادعون أنفسهم حيث منوهاً الأباطيل ، وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضاً ذلك ، فكأنها مجاورة بين اثنين ، وقال الشاعر :

تذكر من أني ومن أين شربه *** يؤامر نفسيه لذي البهجة الإبل

وأنشد ابن الأعرابي :

لم تدر ما ولست قائلها *** عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامر نفسيك ممتريا *** فيها وفي أختها ولم تلد

وقال :

يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة *** أيستوبع الذوبان أم لا يطورها

وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي :

وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت *** تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني

ففي هذه الأبيات قد جعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين ، ولها جنسين ، أو يكون فاعل بمعنى فعل ، فيكون موافقاً لقراءة : ( وما يخدعون ) .

وتقول العرب : خادعت الرجل ، أعملت التحيل عليه فخدعته ، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، خِدعاً ، بكسر الخاء في المصدر وخديعة ، حكاه أبو زيد .

فالمعنى : وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم ، والمراد بالأنفس هنا : ذواتهم .

فالفاعل هو المفعول ، وقد ادعى بعضهم أن هذا من المقلوب وأن المعنى : وما يخادعهم إلا أنفسهم قال : لأن الإنسان لا يخدع نفسه ، بل نفسه هي التي تخدعه وتسوّل له وتأمره بالسوء .

وأورد أشياء مما قلبته العرب ، وللنحويين في القلب مذهبان : أحدهما : أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعاً واتكالاً على فهم المعنى .

والثاني : أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار ، وهذا هو الذي صححه أصحابنا ، وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم : منتك نفسك ، وقوله تعالى : { بل سولت لكم أنفسكم } تخيل أن الممني والمسوّل غير الممنيَّ والمسوَّل له ، وليس على ما تخيل ، بل الفاعل هنا هو المفعول .

ألا ترى أنك تقول : أحب زيد نفسه ، وعظم زيد نفسه ؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ ، وأما المدلول فهو واحد .

وإذا كان المعنى صحيحاً دون قلب ، فأي حاجة تدعو إليه هذا ؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله تعالى منه .

ومن قرأ : وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول ، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه ، إما على التمييز على مذهب الكوفيين ، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم ، وإما على إسقاط حرف الجر ، أي : في أنفسهم ، أو عن أنفسهم ، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون ، فينتصب على أنه مفعول به ، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدى بإلى في قوله : { الرفث إلى نسائكم } ولا يقال رفث إلى كذا ، وكما ضمن { هل لك إلى أن تزكى } معنى أجذبك ، ولا يقال : إلا هل لك في كذا .

وفي قراءة : وما يخدعون ، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل ، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو : قدر الله وقدر ، وقد تقدم ذكر معاني فعل .

وقراءة من قرأ : وما يخدعون ، أصلها يختدعون فأدغم ، ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو : اقتدر على زيد ، وقدر عليه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وقد تقدم ذكرها .

{ وما يشعرون } : جملة معطوفة على : وما يخادعون إلا أنفسهم ، فلا موضع لها من الإعراب ، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم ، روي ذلك عن ابن عباس ، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم ، روي ذلك عن زيد .

ويحتمل أن يكون وما يشعرون : جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين .

وجاء : يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع ، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة ، نحو : زيد يدعّ اليتيم ، وعمرو يقري الضيف .