والخدع : أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه . من قولهم : ضب خادع وخدع ، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر .
فإن قلت : كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا ، ألا نرى إلى قوله :
واستمطروا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مِنْخدِعِ ***
إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ ***
فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع . قلت : فيه وجوه . أحدها : أن يقال كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، صورة صنع الخادعين .
وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم . والثاني : أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ؛ لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، ولا أن لذاته تعلقاً بكل معلوم ، ولا أنه غني عن فعل القبائح ؛ فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . والثالث : أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خليفته في أرضه ، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده ، كما يقال : قال الملك كذا ورسم كذا ؛ وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه . مصداقه قوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وقوله : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] . والرابع : أن يكون من قولهم : أعجبني زيد وكرمه ، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله . وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص ، ولما كان المؤمنون من الله بمكان ، سلك بهم ذلك المسلك . ومثله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وكذلك : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ونظيره في كلامهم : علمت زيداً فاضلاً ، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه ؛ لأنه كان معلوماً له قديماً ؛ كأنه قيل : علمت فضل زيد ؛ ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله .
فإن قلت : هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح ؟ قلت : وجهه أن يقال : عنى به «فعلت » إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت » لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . ويعضده قراءة من قرأ : { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } وهو أبو حيوة . و{ يخادعون } بيان ليقول . ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك ؟ فقيل يخادعون .
فإن قلت : عمّ كانوا يخادعون ؟ قلت : كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة ، وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار . ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد ، ومنها اطلاعهم - لاختلاطهم بهم - على الأسرار التي كانوا حراصاً على إذاعتها إلى منابذيهم .
فإن قلت : فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها . قلت : لم يظهر عليهم لما أحاط به علماً من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك . ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة .
فإن قلت : ما المراد بقوله : { وَمَا يَخادعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } ؟ قلت : يجوز أن يراد : وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم ، ومكرها يحيق بهم ، كما تقول : فلان يضارّ فلاناً وما يضارّ إلا نفسه ، أي : دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه ، وأن يراد حقيقة المخادعة أي : وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به ، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأماني ، وأن يراد : وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون » للمبالغة . وقرىء : «وما يخدعون » ، ويخدعون من خدع . ويخدعون - بفتح الياء - بمعنى يخدعون . ويخدعون . ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله . والنفس : ذات الشيء وحقيقته . يقال عندي كذا نفساً . ثم قيل للقلب : نفس ؛ لأن النفس به . ألا ترى إلى قولهم : المرء بأصغريه . وكذلك بمعنى الروح ، وللدم نفس ؛ لأن قوامها بالدم . وللماء نفس ؛ لفرط حاجتها إليه . قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَي } [ الأنبياء : 30 ] وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه ، كقولهم : فلان يؤامر نفسيه - إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدري على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعيي النفس ، وهاجسي النفس فسموهما : نفسين ، إما لصدورهما عن النفس ، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له ، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين . والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم . والمعنى بمخادعتهم ذواتهم ؛ أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم . ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم .
والشعور علم الشيء علم حس من الشعار . ومشاعر الإنسان : حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.