الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (9)

قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } : هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر ، وهو : ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين ؟ فقيل : يُخادعون اللهَ ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً ل " مَنْ " وهي " يقولُ " ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال ، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله :

إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا *** تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا

وقول الآخر :

متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا

ف " تُؤْخَذَ " بدلُ اشتمالٍ من " تُبايع " وكذا " تُلْمم " بدلٌ من " تأتِنا " ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . والجملُ التي لا محلَّ لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي : المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة ، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها . ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في " يقول " تقديرُه : ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " بمؤمنين " والعاملُ فيها اسمُ الفاعل . وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما معناه : أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ : ما زيدٌ أقبل ضاحكاً ، قال : " وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان ، أحدُهما : نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية ، أعني نفيَ الخِداع ، وثبوتَ الإِيمان . الطريقُ الثاني : أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق : لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً ، أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً ، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع ، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في " بمؤمنين " . والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين ؟ قال : " لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم ، والمعنى على إثباتِ الخداعِ " ، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير " مؤمنين " ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا .

والخِداعُ أصلُه الإِخفاء ، ومنه الأَخْدَعان : عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت ، فمعنى خادع أي : مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه ، وقيل : هو الفساد ، قال الشاعر :

أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ *** طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ

أي : فَسَد . والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء ، ومثله : الخَدِيعة . ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى ، وقيل : لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ . وقال أبو القاسم الزمخشري/ : " إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ ، والمعنى : يُخادِعون الذين آمنوا ، ويكون من باب " أعجبني زيدٌ وكرمُه " .

المعنى : أعجبني كرمُ زيد ، وإنما ذُكر " زيدٌ " توطئةً لذِكْر كرمه " وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ]

{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] . وهذا منه غيرُ مُرْضٍ ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى ، وأمَّا " أعجبني زيدٌ وكرمُه " فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه ، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .

وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ : المشاركةُ المعنويةُ نحو : " ضاربَ زيدٌ عمراً " وموافقةُ المجرد نحو : " جاوَزْتُ زيداً " أي جُزْتُه ، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو : " باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته " ، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو : " وارَيْتُ الشيءَ " ، وعن المجردِ نحو : سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت ، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ . أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها ، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا ، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم ، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة : " يَخْدَعون " .

وقرأ أبو عمرو والحرمِيَّان : " وما يُخَادِعون " كالأولى ، والباقون : وما يَخْدعون ، فيُحتمل أن تكونَ القراءتان بمعنىً واحد ، أي يكون فاعَلَ بمعنى فَعَل ، ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ على بابها ، أعني صدورَها من اثنين ، فهم يُخادعون أنفسَهم ، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر :175 لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها *** عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ

ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً *** فيها وفي أختِها لم تَكَدِ

وقال آخرُ :

يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ *** أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها

وقوله " إلا أنفسَهم " : " إلا " في الأصل حَرف استثناء ، ِ وأنفسَهم مفعول به ، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ ، وهو عبادرةٌ عما افْتَقَر فيه ما قبلَ " إلا " لِما بعدها ، ألا ترى أن " يُخادعون " يَفْتَقِرُ إلى مفعولٍ ، ومثلُه : " ما قام إلا زيدٌ " فقام يفتقر إلى فاعل ، ٍ والتامُّ بخلافِه ، أي : ما لم يَفْتَقِرْ فيه ما قبلَ " إلاَّ " لِما بعدها ، نحو : قام القومُ إلا زيداً ، وضرْبتُ القوم إلا بكراً ، فقام قد أخذ فاعلَه ، وضرْبتُ أخذ مفعولَه ، وشرطُ الاستثناء المفرغ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهام والنفي . وأمَّا قولُهم : " قرأتُ إلا يومَ كذا " فالمعنى على نفيٍ مؤول تقديره : ما تركتُ القراءة إلا يوم كذا ، ومثلُه :

{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] ، { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى .

وقُرئ : " وما يُخْدَعون " مبنياً للمفعول ، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم ، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ :

تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و " يُخَدِّعون " ، مِنْ خَدَّعَ مشدداً ، و " يَخَدِّعون " بفتح الياء والتشديد والأصل : يَخْتَدِعون فأدغم .

{ وَمَا يَشْعرونَ } هذه الجملةُ الفعليةُ ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعراب ، لأنها استئنافٌ ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل " يَخْدعون " ، والمعنى : وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك . ومفعولُ " يَشْعُرون " محذوفٌ للعلم به ، تقديرُه : وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم ، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار ، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ .

والشعورُ : إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى ، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته ، وقيل : هوالإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار ، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ ، ومنه مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها .