قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا } ، قال ابن عباس : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال :إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ، ما قالوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " . وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم ، فقال جلاس : لئن كان محمد صادقا لنحن شر حمير . فسمعه عامر بن قيس : أجل إن محمد لصادق وأنتم شر من الحمير ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس ، فقال الجلاس : كذب علي يا رسول الله ، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر ، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ، ولقد كذب علي عامر ، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : آمين . فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية ، حتى بلغ : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } ، فقام الجلاس فقال : يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة ، صدق عامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه ، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته قوله تعالى : { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } ، أي : أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام . قيل : هي سب النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : كلمة الكفر قول الجلاس : لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير . وقيل : كلمة الكفر قولهم { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقين-8 ] وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين ، { وهموا بما لم ينالوا } ، قال مجاهد : هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم : لنحن شر من الحمير ، لكي لا يفشيه . وقيل : هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله علي وسلم ، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأرسل حذيفة لذلك . وقال السدي : قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا ، فيم يصلوا إليه . { وما نقموا } ، وما كرهوا وما أنكروا منهم ، { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } . وذلك أن مولى الجلاس قتل ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى . وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش ، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم . { فإن يتوبوا } من نفاقهم وكفرهم { يك خيرًا لهم وإن يتولوا } ، يعرضوا عن الإيمان ، { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } ، بالخزي ، { والآخرة } ، أي : وفى الآخرة بالنار ، { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } أي : إذا قالوا قولا كقول من قال منهم { ليخرجن الأعز منها الأذل } والكلام الذي يتكلم به الواحد بعد الواحد ، في الاستهزاء بالدين ، وبالرسول .
فإذا بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه شيء من ذلك ، جاءوا إليه يحلفون باللّه ما قالوا .
قال تعالى مكذبا لهم { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ } فإسلامهم السابق -وإن كان ظاهره أنه أخرجهم من دائرة الكفر -فكلامهم الأخير ينقض إسلامهم ، ويدخلهم بالكفر .
{ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } وذلك حين هموا بالفتك برسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقص اللّه عليه نبأهم ، فأمر من يصدهم عن قصدهم .
{ و } الحال أنهم { مَا نَقَمُوا } وعابوا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم { إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } بعد أن كانوا فقراء معوزين ، وهذا من أعجب الأشياء ، أن يستهينوا بمن كان سببا لإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ومغنيا لهم بعد الفقر ، وهل حقه عليهم إلا أن يعظموه ، ويؤمنوا به ويجلوه ؟ " فاجتمع الداعي الديني وداعي المروءة الإنسانية .
ثم عرض عليهم التوبة فقال : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ } لأن التوبة ، أصل لسعادة الدنيا والآخرة .
{ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا } عن التوبة والإنابة { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } في الدنيا بما ينالهم من الهم والغم والحزن على نصرة اللّه لدينه ، وإعزار نبيه ، وعدم حصولهم على مطلوبهم ، وفي الآخرة ، في عذاب السعير .
{ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ } يتولى أمورهم ، ويحصل لهم المطلوب { وَلَا نَصِيرٍ } يدفع عنهم المكروه ، وإذا انقطعوا من ولاية اللّه تعالى ، فَثَمَّ أصناف الشر والخسران ، والشقاء والحرمان .
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور ، ومن خيانة وغدر ، وفتح أمامهم باب التوبة ، وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا في نفاقهم فقال - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ . . . } .
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما رواه ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال : " نزلت هذه الآية : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } . الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت . أقبل هو ابن امرأته مصعب من قباء . فال الجلاس : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها ! !
فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت : قال مصعب : فأتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبنى قارعة . . فقلت يا رسول الله : أقبلت أنا والجلاس من قباء . فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبنى قارعة ما أخبرتك .
قال مصعب : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجلاس فقال له : أقلت الذي قال مصعب ؟ فحلف الجلاس بأنه ما قال ذلك . فأنزل الله الآية " .
وأخرج ابن اسحاق وابن أبى حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن وفيه ذكر المنافقين قال الجلاس بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير . فسمعه عمير بن عسد فقال : والله لا جلاس إنك لأحب الناس إلى . وأحسنهم عندى أثراً . ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ، ولئن سكت عنها هلكت ، ولإِحداهما أشد عن الأخرى .
فمشى عمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - الجلاس عما قاله عمير ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وزعم أن عميرا كذب عليه فنزلت هذه الآية .
وقال الإِمام أحمد : " حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبى الطفيل . قال : لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أمر مناديه فنادى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ طريق العقبة - وهو مكان مرتفع ضيق - فلا يأخذها أحد .
قال : فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقود ركابه حذيفة ويسوقه عمار ، إذا أقيل رهط ملثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة : " قد ، قد " . أى حسبك حسبك . حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع عمار .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمار " هل عرفت القوم " ؟ فقال : لقد عرفت عام الرواحل والقوم متلثمون . قال : " هل تدرى ما أرادوا " ؟ قال : الله ورسوله اعلم . قال : " أرادوا أن ينفورا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته فيطرحوه " " .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية وهى تكشف عن كذب المنافقين وغدرهم .
وقوله . سبحانه : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ . . . } استئناف مسوق لبيان جانب مما صدر عنهم من جرائم تستدعى جهادهم والإِغلاظ عليهم .
أى : يحلف هؤلاء المنافقون بالله كذاب وزورا أنهم ما قالوا هذا القول القبيح الذي بلغك عنهم يا محمد .
والحق أنهم قد قالوا " كلمة الكفر " وهى تشمل كل ما نطقوا به من اقوال يقصدون بها إيذاءه - صلى الله عليه وسلم - ، كقولهم : " هو أذن " وقولهم . " لئن كان ما جاء به حقا فنحن أشر من حمرنا . . " وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها .
وأنهم قد { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } أى : أظهروا الكفر بعد إظهاره الإِسلام .
وأنهم قد { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } أى : حاولوا إلحاق الأذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ، لأن الله - تعالى - عصمة من شرورهم .
وقوله : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابتلهم الحسنة بالسيئة .
ومعنى : نقموا : كرهوا وعابوا وأنكروا ، يقال نقم منه الشئ إذا أنكره ، وكرهه وعابه ، وكذا إذا عاقبه عليه .
أى : وما أنكر هؤلاء المنافون من أمر الإِسلام شيئا ، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حللو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بنيهم .
وهذه الجملة الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة : تأكيد المدح بما يشه الذم .
قال الجمل : كأنه قال - سبحانه - ليس له - صلى الله عليه وسلم - صفة تكره وتعاب ، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم ، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة ، وهذه ليست صفة ذم - بل هي صفة مدح - فحينذ ليس له صفة تذم أصلا .
وشبيه بهذا الاسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإِقدام
ولا عيب فيم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتاتب
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة . . . } .
أى : فإن يتب هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم ، يكن المتاب خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم . " وإن يتلوا " ويعرضوا علن الحق : ويتسمروا في ضلالهم { يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة } .
أما عذاب الدنيا فمن مظاهره : حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنين على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة الحقائق ، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين ، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين ومعاقبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم .
وأما عذاب الآخرة ، فهو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على النفاق ، وإعراضهم عن دعوة الحق .
وقوله : { وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } تذييل قصد به تيئيسهم من كل معين أو ناصر .
أى : أن هؤلاء المنافقين ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله ، أو يحميهم من عقابه ، لأن عقابه الله لن يدفعه دافع إلا هو فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى ربهم قبل أن يحل بهم عذابه .
( يحلفون باللّه ما قالوا . ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) . .
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم ، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول - [ ص ] - وللمسلمين . . وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية :
قال قتادة : نزلت في عبد اللّه بن أبي . وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد اللّه للأنصاري : ألا تنصرون أخاكم ? واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - [ ص ] - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف باللّه ما قاله ، فأنزل اللّه فيه هذه الآية .
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه - [ ص ] - جالساً تحت ظل شجرة ، فقال : " إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول اللّه - [ ص ] - فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك ? " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا باللّه ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل اللّه عز وجل : يحلفون باللّه ما قالوا . . . الآية .
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه : أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت . كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال عمير : واللّه يا جلاس : إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ؛ ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عَلّي من الأخرى . فأخبر بها رسول اللّه - [ ص ] - فأنكرها وحلف باللّه ما قالها ، فأنزل اللّه الآيات . فقال الرجل قد قلته ، وقد عرض اللّه عليّ التوبة ، فأنا أتوب ، فقبل منه ذلك . .
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة : ( وهموا بما لم ينالوا )وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة ، من قتل رسول اللّه - [ ص ] - غيلة وهو عائد من تبوك . فنختار إحداها :
قال الإمام أحمد - رحمه اللّه - حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد اللّه بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول اللّه - [ ص ] - من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى : إن رسول اللّه - [ ص ] - أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد . فبينما رسول اللّه - [ ص ] - يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول اللّه - [ ص ] - فأقبل عمار - رضي اللّه عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة " قد . قد " حتى هبط رسول اللّه - [ ص ] - ، ورجع عمار . فقال يا عمار : " هل عرفت القوم ? " فقال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون . قال : " هل تدري ما أرادوا ? " قال : اللّه ورسوله أعلم . قال : " أرادوا أن ينفروا برسول اللّه - [ ص ] - راحلته فيطرحوه " قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] فقال : نشدتك باللّه ، كم تعلم كان أصحاب العقبة ? قال : أربعة عشر رجلاً . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعد رسول اللّه - [ ص ] - منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله [ ص ] وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب للّه ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم . وسواء كانت هي أو شيء مثلها هو الذي تعنيه الآية ، فإنه ليبدو عجيبا أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة . والنص يعجب هنا منهم :
( وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله ) . .
فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها . . اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام ، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون !
ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم ، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه . فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح . ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج ، فالعاقبة كذلك معروفة : العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض . . ولمن شاء أن يختار ، وهو وحده الملوم :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
وقوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جُهَني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصروا أخاكم ؟ والله{[13649]} ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : " سمِّن كلبك يأكلك " ، وقال : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية{[13650]} وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثنا عبد الله بن الفضل ، أنه سمع أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، يقول : حزنت على من أصيب بالحرَّة من قومي ، فكتب إلي زيد بن أرقم ، وبلغه شدة حزني ، يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم ، اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار " - وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار - قال ابن الفضل : فسأل أنسا بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم ، فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوفى الله له بأذنه " . وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب - : لئن كان هذا صادقا فنحن{[13651]} شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ، ولأنت شر من الحمار . ثم رُفع ذلك إلى رسول الله ، فجحده القائل ، فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد - يعني قوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } الآية .
رواه البخاري في صحيحه ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة . إلى قوله : " هذا الذي أوفى الله له بأذنه " {[13652]} ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فُلَيح ، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال : قال ابن شهاب . فذكر ما بعده عن موسى ، عن ابن شهاب .
والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق ، فلعل الراوي وَهَم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم .
[ حاشية ]{[13653]} قال " الأموي " في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر ، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض العلة ، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه . وذكر الحديث بطوله ، إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ، ونزل فيه القرآن منهم ، ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : الجُلاس بن سُوَيد بن الصامت ، وكان على أم عُمَير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين ، قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير [ قال ]{[13654]} فسمعها عمير بن سعد فقال : والله - يا جلاس - إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله{[13655]} شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى . فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس . فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ، ولقد كذب علي . فأنزل الله ، عز وجل ، فيه : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } إلى آخر الآية . فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها . فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ، ونزع فأحسن النزوع{[13656]} هكذا جاء هذا " مدرجا " في الحديث متصلا به ، وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه ، لا من كلام كعب بن مالك .
وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مُصعب من قُبَاء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حُمُرنا هذه التي نحن عليها . فقال مصعب : أما والله - يا عدو الله - لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وخفت أن ينزل في القرآن{[13657]} أو تصيبني قارعة ، أو أن أخلط{[13658]} بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله ، أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط{[13659]} بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك . قال : فدعا الجلاس فقال : " يا جلاس ، أقلت الذي قاله مصعب ؟ " فحلف ، فأنزل الله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } الآية .
وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة - فيما بلغني - الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له : عمير بن سعيد ، فأنكرها ، فحلف بالله ما قالها : فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته ، فيما بلغني .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : " إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل{[13660]} الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } الآية{[13661]} وذلك بَيِّنٌ فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " دلائل النبوة " من حديث محمد بن إسحاق ، عن الأعمش عن عمرو بن مُرة ، عن [ أبي ]{[13662]} البختري ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به ، وعمار يسوق الناقة - أو أنا : أسوقه ، وعمار يقوده - حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بهم ]{[13663]} فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل عرفتم القوم ؟ قلنا : لا يا رسول الله ، قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب . قال : " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون{[13664]} ما أرادوا ؟ " قلنا : لا . قال : " أرادوا أن يزحموا{[13665]} رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها " . قلنا : يا رسول الله ، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال : " لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [ إذا ]{[13666]} أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم " ، ثم قال : " اللهم ارمهم بالدبيلة " . قلنا : يا رسول الله ، وما الدبيلة ؟ قال : " شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك " {[13667]} وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يزيد ، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار ، رضي الله عنه ، يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله{[13668]} صلى الله عليه وسلم لحذيفة : " قد ، قد " حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ فلما هبط ]{[13669]} نزل ورجع عمار ، فقال : " يا عمار ، هل عرفت القوم ؟ " فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون . قال : " هل تدري ما أرادوا ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه " . قال : فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نشدتك{[13670]} بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعذر{[13671]} رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد{[13672]} وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي ، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون ، وهم متلثمون ، فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله{[13673]} صلى الله عليه وسلم ، فأمر حذيفة فرجع إليهم ، فضرب وجوه رواحلهم ، ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم ، وما كانوا هموا به من الفتك{[13674]} به ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأمرهما أن يكتما عليهم{[13675]} وكذلك روى يونس بن بُكَير ، عن ابن إسحاق ، إلا أنه سَمّى جماعة منهم ، فالله أعلم{[13676]} وكذا قد حكي{[13677]} في معجم الطبراني ، قاله البيهقي . ويشهد لهذه القصة بالصحة ، ما رواه مسلم :
حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جُمَيع ، حدثنا أبو الطفيل قال : كان [ بين ]{[13678]} رجل من أهل العقبة [ وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة ]{[13679]} قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك . قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم{[13680]} خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا علمنا بما أراد القوم . وقد كان في حرة فمشى ، فقال : " إن الماء قليل ، فلا يسبقني إليه أحد " ، فوجد قوما قد سبقوه ، فلعنهم{[13681]} يومئذ{[13682]} وما رواه مسلم أيضا ، من حديث قتادة ، عن أبي نَضْرة ، عن قيس بن عباد ، عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في أصحابي اثنا عشر منافقا ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج [ الجمل ]{[13683]} في سم الخياط : ثمانية تكفيكهم الدُّبَيْلة : سراج من نار يظهر بين أكتافه حتى ينجم من صدورهم " {[13684]}
ولهذا كان حذيفة يقال له : " صاحب السر ، الذي لا يعلمه غيره " أي : من تعيين جماعة من المنافقين ، وهم هؤلاء ، قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره ، والله أعلم . وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روى عن علي بن عبد العزيز ، عن الزبير بن بكار أنه قال : هم مُعَتِّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجد بن عبد الله بن نَبْتَل بن الحارث من بني عمرو بن عوف ، والحارث بن يزيد الطائي ، وأوس بن قَيْظِي والحارث بن سُوَيْد ، وسعد بن زرارة{[13685]} وقيس بن فهد ، وسويد وداعس من بني الحبلي ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وزيد بن اللصيت ، وسلالة بن الحمام ، وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام{[13686]}
وقوله : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته ، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به ، كما قال ، عليه السلام{[13687]} للأنصار : " ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن .
وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] وكما قال ، عليه السلام{[13688]} ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله " .
ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : وإن يستمروا على طريقهم { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والهم والغم ، { والآخرة } أي : بالعذاب والنكال والهوان والصغار ، { وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } أي : وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، ولا يحصل لهم خيرا ، ولا يدفع عنهم شرا .
{ يحلفون بالله ما قالوا } روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته . { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام . { وهمّوا بما لم ينالوا } من فتك الرسول ، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وما نقموا } وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم . { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فلما قدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى . والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل . { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في { يك } للتوب . { وإن يتولّوا } بالإصرار على النفاق . { يعذّبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } بالقتل والنار . { وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير } فينجيهم من العذاب .
{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله }
لمّا كان معظم ما أخِذ على المنافقين هو كلماتٍ دالّةً على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نُقِل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة ، عُقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصلٌ كاذب وأن لا ثِقة بحَلفهم ، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم . فجملة { يحلفون } مستأنفة استئنافاً بيانياً يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم ، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم فِي حلفهم .
وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر } وما بعده ، وأن ذلك إنّما أخَّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء ، وأتِي بالمقصود في صورة جملة حاليَّة . ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيَّد . ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضِهم عهد الإسلام ، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتُصر على إثبات مقابله وهو { ولقد قالوا كلمة الكفر } ، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به .
وأيّاً ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف .
ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر } .
وأكَّد صدور كلمة الكفر منهم ، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها ، بصيغة القَسم ليكون تكذيب قولهم مساوياً لقولهم في التأكيد .
وكلمةُ الكفر الكلام الدالّ عليه ، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد ، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاماً جامعاً موجَزاً كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 8 ] وفي الحديث : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل »
فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله . فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها ، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين . فعن قتادة : لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم .
وقيل : المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال : لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها ، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وقيل : بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ } [ المنافقون : 8 ] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك .
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمعٍ كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا . وقد فعله واحد ، أو باعتبار قولِ واحدٍ وسماع البقية فجُعلوا مشاركين في التبعة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنّما قتله واحد من القبيلة ، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه . وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه .
وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله : { وكفروا بعد إسلامهم } فكذلك .
ومعنى { بعد إسلامهم } بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة ، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ] .
والهَمّ : نيَّة الفعل سواء فُعل أم لم يفعل .
ونوال الشيء حصوله ، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يترصّدوا له في عَقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليْلاً يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً وقد أخذَ عَمَّار بن يَاسِر بخطام راحلته يقودها . وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا .
وجملة : { وما نقموا } عطف على { ولقد قالوا } أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلامِ المدينةَ شيئاً يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة .
والنقْم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى : { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا } في سورة الأعراف ( 126 ) .
وقوله : إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } استثناء تهكّمي . وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة :
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب
ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمَه الخبري ونحوَه فيذكر شيئاً هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه .
وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمْن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات ، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروبٌ تفانَوا فيها قُبيل الهجرة وهي حروب بعاث .
والفضل : الزيادة في البذل والسخاء . و { مِن } ابتدائية . وفي جعل الإغناء من الفضل كنايةٌ عن وفرة الشيء المغنَى به لأنّ ذا الفضلِ يعطي الجَزل .
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر .
{ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
التفريع على قوله : { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغِلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار ، فرّع على ذلك الإخبارَ بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنَّ تدارك أمرهم في مكنتهم ، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم .
والتوبة هي إخلاصهم الأيمانَ . والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين ، والضمير في { يك } عائد إلى مصدر { يتوبوا } وهو التوبُ .
والتولّي : الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة . والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار .
وجيء بفعل { يك } في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خيرٌ لهم لتأكيد وقوع الخَيْر عند التوبة ، والإيماءِ إلى أنّه لا يحصل الخير إلاّ عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك .
وحَذف نون « يكن » للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسَّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } في سورة النساء ( 40 ) .
وجملة : وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } عطف على جملة { يعذبهم الله } الخ فتكون جواباً ثانياً للشرط ، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة . لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعاً للجملة المعطوف عليها .
والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم مِن القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلاّ من لا يعبأ بهم عَدداً وعُدداً ، والمراد نفي الولي النافع كما هو مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي .