فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (74)

وقد ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة فقال : { يحلفون بالله ما قالوا } استئناف مسوق لبيان ما صدر عنهم من الجرائم الموجبة للأمر بجهادهم والغلظة عليهم .

وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية ، فقيل نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت ، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم فقالا : لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير ، فقال له عامر بن قيس أجل والله إن محمدا لصادق مصدق ، وإنك لشر من الحمار ، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء الجلاس فحلف بالله أن عامرا لكاذب ، وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك شيئا فنزلت . وقيل إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي وقيل حذيفة .

وقيل بل سمعه ولد امرأته – أي امرأة الجلاس- واسمه عمير بن سعد فهمّ الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره .

وقيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين لما قال ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، فجاء عبد الله بن أبيّ فحلف أنه لم يقله .

وقيل إنه قول جميع المنافقين ، وإن الآية نزلت فيهم ، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف ، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب نزول هذه الآية وفيما ذكرناه كفاية .

ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذبا فقال : { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة { وكفروا بعد إسلامهم } أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم الإسلام وإن كانوا كفارا في الباطن ، والمعنى أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم .

{ وهموا بما لم ينالوا } قيل هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك وهم بضعة عشر رجلا فضرب عمار بن ياسر ، وفي قول حذيفة بن اليمان وجوه الرواحل لما غشوه فرجعوا ، والقصة مبسوطة في سيرة الحلبي وغيرها ، وقيل هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبيّ ، وقيل هو همّ الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

{ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } أي ما عابوا وأنكروا وكرهوا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء ، وهو إغناء الله لهم من فضله ، والاستثناء مفرغ من أعم العام فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم ، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم النقمة ، وقيل إنهم بطروا النعمة أشرا .

{ فإن يتوبوا } أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق { يك } ذلك الذي فعلوه من التوبة { خيرا لهم } في الدين والدنيا ، وقد تاب الجلاس ابن سويد وحسن إسلامه ، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر ، وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق ، فمنع قبولها مالك وأتباعه لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام .

{ وإن يتولوا } أي يعرضوا عن التوبة والإيمان ويصروا على النفاق والكفر { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا } بالقتل والأسر ونهب الأموال عاجلا فلا ينافي ما سبق من أن قتالهم باللسان والحجة لا بالسيف ، لأن ذاك إذا لم يظهروا الكفر بل أظهروا الإيمان { و } في { الآخرة } بعذاب النار آجلا { وما لهم في الأرض } مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها { من ولي } يواليهم { ولا نصير } ينصرهم .