فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (74)

ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة فقال : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية ، فقيل نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، ووديعة بن ثابت ، وذلك أنه كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم ، فقالا : لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شرّ من الحمير ، فقال له عامر بن قيس : أجل ، والله إن محمداً لصادق مصدّق ، وإنك لشرّ من الحمار ، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء الجلاس فحلف بالله أن عامراً لكاذب ، وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت ، وقيل : إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي ، وقيل : حذيفة ، وقيل : بل سمعه ولد امرأته : أي امرأة الجلاس ، واسمه عمير بن سعد ، فهمّ الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره . وقيل : إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين لما قال : ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : «سمن كلبك يأكلك » ، و { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاء عبد الله بن أبيّ ، فحلف أنه لم يقله . وقيل : إنه قول جميع المنافقين ، وأن الآية نزلت فيهم ، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ، ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف . ثم ردّ الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً ، فقال : { وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } وهي ما تقدّم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } أي : كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام ، وإن كانوا كفاراً في الباطن . والمعنى : أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم .

قوله : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } قيل : هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك .

وقيل : هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبيّ . وقيل : هو همّ الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } أي : وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء ، وهو إغناء الله لهم من فضله ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العامّ ، وهو من باب قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

ومن باب قول الشاعر :

ما نقموا من بني أمية إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا

فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم . وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتسعت معيشتهم ، وكثرت أموالهم . قوله : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } أي : فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيراً لهم في الدين والدنيا ، وقد تاب الجلاس بن سويد ، وحسن إسلامه ، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر .

وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق ، فمنع من قبولها مالك وأتباعه ، لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام { وَإِن يَتَوَلَّوْا } أي : يعرضوا عن التوبة والإيمان { يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدنيا } بالقتل والأسر ، ونهب الأموال { و } في { الآخرة } بعذاب النار { وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيّ } يواليهم { وَلاَ نَصِيرٍ } ينصرهم .

/خ74