السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (74)

{ يحلفون } أي : المنافقون { بالله ما قالوا } أي : ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوهاً .

الأوّل : روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقاً لنحن شرّ من الحمير ، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس : أجل والله إنّ محمداً صادق وأنت شرّ من الحمار ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله عز وجل ما قاله فرفع عامر يده وقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس : لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته .

الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلم فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل .

الثالث : روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهي سب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل : هي كلمة الجلاس بن سويد ، وقيل : هي كلمة عبد الله بن أبيّ { وكفروا بعد إسلامهم } أي : وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام { وهموا بما لم ينالوا } أي : من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي : علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا .

وقيل : هم المنافقون هموا بقتل عامر حين ردّ على الجلاس .

وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما نقموا } أي : وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى فالمنافقون عملوا بضدّ الواجب فوضعوا موضع شكره صلى الله عليه وسلم أن نقموا منه .

وقال ابن قتيبة معناه ليس هناك شيء ينقمون منه ولا يعيبون من الله إلا الصنيع وهذا كقول الشاعر :

ما نقموا من بني أمية إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا

وكقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي : ليس فيها عيب { فإن يتوبوا } أي : من كفرهم ونفاقهم { يك خيراً لهم } في العاجل والآجل من إصرارهم على ذلك وهذا الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في يك للتوبة { وإن يتولوا } أي : يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } بالقتل والأسر والإذلال { والآخرة } بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه وهو خلودهم في النار { وما لهم في الأرض } أي : التي لا يعرفون غيرها لسفول همتهم { من ولي } يحفظهم منه { ولا نصير } يمنعهم وأمّا السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها في شيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما بها من العجائب وما بها من الجنود واعلم أنّ هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم الله تعالى على التفصيل فيقول تعالى : { ومنهم الذين يؤذون النبيّ } ( التوبة ، 61 )

{ ومنهم من يلمزك في الصدقات } ( التوبة ، 58 ) { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ( التوبة : 49 ) .