قوله تعالى : { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } ، أي : إلى العجل ، { نكرهم } ، أنكرهم ، { وأوجس } ، أضمر { منهم خيفة } ، خوفا . قال مقاتل : وقع في قلبه ، وأصل الوجوس : الدخول ، كان الخوف دخل قلبه . وقال قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر .
{ قالوا لا تخف } ، يا إبراهيم إنا رسل ربك . يعني : { إنا } ملائكة الله { أرسلنا إلى قوم لوط* } .
ثم بين - سبحانه - حال إبراهيم عندما رأى ضيوفه لا يأكلون من طعامه فقال : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً .
ومعنى { نَكِرَهُمْ } : نفر منهم ، وكره تصرفهم . نقول فلان نكر حال فلان - كعلم - وأنكره نكراً ونكوراً . . . إذا وجده على غير ما يعهده فيه ، ويتوقعه منه .
{ وَأَوْجَسَ } من الوجس وهو الصوت الخفى ، والمراد به هنا : الإِحساس الخفى بالخوف والفزع الذى يقع فى النفس عند رؤية ما يقلقها ويخيفها .
أى : فلما رأى إبراهيم - عليه السلام - ضيوفه لا تمتد أيديهم إلى الطعام الذى قدمه لهم ، نفر منهم ، وأحس فى نفسه من جهتهم خوفاً ورعباً ؛ لأن امتناع الضيف عن الأكل من طعام مضيفه - بدون سبب مقنع 0- يشعر بأن هذا الضيف ينوى شراً به . . . والتقاليد فى كثير من البلاد إلى الآن تؤيد ذلك .
ولذا قالت الملائكة لإِبراهيم عندما لاحظوا ما يساور نفسه من الخوف : { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ }
أى : لا تخف يا إبراهيم فإنا لسنا ضيوفا من البشر ، وإنما نحن رسل من الله - تعالى - أرسلنا إلى قوم لوط لإِهلاكهم .
وقد جاء فى بعض الآيات أنه صارحهم بالخوف منهم ، ففى سورة الحجر قال - تعالى - : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . . . }
ولكن الملائكة لا يأكلون طعام أهل الأرض :
( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ) . .
فالذي لا يأكل الطعام يريب ، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرا بحسب تقاليد أهل البدو . . وأهل الريف عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ، أي من خيانة من أكلوا معه طعاما ! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شرا ، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم . . وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم :
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } تَنَكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه ؛ فلهذا رأى حالهم معرضين{[14726]} عما جاءهم به ، فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نَكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } .
قال السدّي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط{[14727]} أقبلت تمشي في صُور رجال شبان{[14728]} حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم [ إبراهيم ]{[14729]} أجَلَّهم ، { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } فذبحه ثم شواه في الرضف{[14730]} . [ فهو الحنيذ حين شواه ]{[14731]} وأتاهم به فقعد معهم ، وقامت سارة تخدمهم{[14732]} فذلك حين يقول : " وامرأته قائمة وهو جالس " في قراءة ابن مسعود : " فلما قَربه إليهم قال ألا تأكلون قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن . قال فإن لهذا ثمنا . قالوا{[14733]} وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حُق لهذا أن يتخذه ربه خليلا " ، { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } يقول : فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم ، وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه{[14734]} سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، [ إنا ]{[14735]} نخدمهم بأنفسنا كرامة{[14736]} لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا نصر بن علي ، [ حدثنا ]{[14737]} نوح بن قيس ، عن عثمان بن مِحْصن في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ورفائيل . قال نوح بن قيس : فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم ، فقرب إليهم العجل ، مسحه جبريل بجناحه ، فقام يدرج حتى لحق بأمه ، وأم العجل في الدار .
وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : { قَالُوا لا تَخَفْ [ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ] } {[14738]} أي قالوا : لا تخف منا ، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم{[14739]} . فضحكت{[14740]} سارة استبشارًا [ منها ]{[14741]} بهلاكهم ، لكثرة فسادهم ، وغِلَظ كفرهم وعنادهم ، فلهذا جوزيت بالبشارة
وقال قتادة : ضحكت [ امرأته ]{[14742]} وعجبت [ من ]{[14743]} أن قوما يأتيهم{[14744]} العذاب وهم في غفلة [ فضحكت من ذلك وعجبت فبشرناها بإسحاق ] .
وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : { فَضَحِكَتْ } أي : حاضت .
وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط ، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم - ضعيفان جدا ، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما ، فلا يلتفت إلى ذلك ، والله أعلم .
وقال وهب بن مُنَبِّه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق . وهذا مخالف لهذا السياق ، فإن البشارة صريحة مُرتبة على .
{ فَبَشَّرْنَاهَا{[14745]} بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي : بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل ؛ فإن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال في آية البقرة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] .
ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية ، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل ، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق ؛ لأنه وقعت البشارة به ، وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل{[14746]} صغير ، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده . ووعد الله حق لا خُلْفَ فيه ، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون هو إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ، ولله الحمد .
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } لا يمدون إليه أيديهم . { نكرهم وأوجس منهم خيفة } أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروها ، ونكر وأنكر واستنكر بمعنى والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار { قالوا } له لما أحسوا منه أثر الخوف . { لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط } إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب ، وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل .
وقوله تعالى : { فلما رأى أيديهم } الآية ، روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا ؟
قال القاضي أبو محمد : وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر ، فروي أن أعرابياً أكل مع سليمان بن عبد الملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له : أزل الشعرة عن لقمتك ، فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعر في لقمتي والله لا أكلت معك{[6425]} .
و { نكرهم } - على ما ذكر كثير من الناس - معناه : أنكرهم ، واستشهد لذلك بالبيت الذي نحله أبو عمرو بن العلاء الأعشى وهو : [ البسيط ]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت*** من الحوادث إلا الشيب والصلعا{[6426]}
وقال بعض الناس : «نكر » هو مستعمل فيما يرى بالبصر فينكر ، وأنكر هي مستعملة فيما لا يقرر من المعاني ، فكأن الأعشى قال : وأنكرتني مودتي وأدمتي{[6427]} ونحوه ، ثم جاء ب «نكر » في الشيب والصلع الذي هو مرئي بالبصر ، ومن هذا قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
فنكرنه فنفرن وامترست به*** هوجاء هادية وهاد جرشع{[6428]}
والذي خاف منه إبراهيم عليه السلام ما يدل عليه امتناعهم من الأكل ، فعرف من جاء بشر أن لا يأكل طعام المنزول به ، و { أوجس } معناه أحس في نفسه خيفة منهم ، و «الوجيس » : ما يعتري النفس عند الحذر وأوائل الفزع ، فأمنوه بقولهم : { لا تخف } وعلم أنهم الملائكة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما رءا أيديهم لا تصل إليه} أي إلى العجل، {نكرهم} يعني أنكرهم وخاف شرهم، {وأوجس منهم خيفة}، يقول: فوقع عليه الخوف منهم، {قالوا}، أي قالت الملائكة: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} بهلاكهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيدَيهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به والطعام الذي قدّم إليهم نكرهم، وذلك أنه لما قدّم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم فيما ذُكِر، كَفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله، وكان إمساكهم عن أكله عند إبراهيم وهم ضيفانه مستنكرَا، ولم تكن بينهم معرفة، وراعه أمرهم وأوجس في نفسه منهم خيفة... عن قتادة:"فَلَمّا رأى أيْدِيهِمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهُمْ وأوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً" وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يَطعَم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ...
"وأوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً "يقول: أحسّ في نفسه منهم خيفة وأضمرها.
"قالُوا لا تَخَفْ" يقول: قالت الملائكة لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنا، فإنا ملائكةُ ربك أرسلنا إلى قوم لوط...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) قال بعضهم: نكرهم أي أنكرهم، واستنكرهم واحد، وهو من إنكار؛ أي لم يعرفهم... وقيل: (نكرهم) أنهم من البشر (وأوجس منهم خيفة)... وقال بعضهم: (خيفة) أي وحشة، أي أضمر وحشة حين لم يتناولوا شيئا مما قرب إليهم، فحينئذ علم أنهم ليسوا من البشر... فما جاؤوا إلا لأمر عظيم لتعذيب قوم وهلاكهم، فخاف لذلك. فقالوا (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) وقال في موضع آخر: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)... (قال فما خطبكم أيها المرسلون) [الذاريات: 28.. و31] يذكر ههنا أن قولهم: (إنا أرسلنا) على إثر سؤال، وفي ما نحن فيه، لا كذلك. فالمعنى فيه، والله أعلم، أن ذلك كان على إثر سؤال إبراهيم بقوله: (فما خطبكم أيها المرسلون) لكنه جمع ذلك في ما نحن فيه بالحكاية عن قولهم، وإن كان مفصولا عنه، وخرجت الحكاية في موضع آخر على ما كان في الحقيقة. وذلك مستقيم في كلام العرب، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر وأحسّ منهم خوفاً، وقال مقاتل: وقع في قلبه، الأخفش: خامر نفسه. الفرّاء: استشعر. الحسن: حدّث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه...
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} يا إبراهيم فإنّا ملائكة الله {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} قال الوالبي: لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب؛ لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الحجر: 8] أي بالعذاب، قالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط لا إلى قومك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل في وجه إتيان الملائكة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في صورة الأضياف قولان: أحدهما -قال الحسن أنهم أتوه على الصفة التي كان يحبها، لأنه كان يقري الضيف. والآخر- أنهم أروه معجزا من مقدور الله في صورتهم مع البشارة له بالولد على الكبر، فأخبر الله تعالى أن إبراهيم لما رآهم ممتنعين من تناول الطعام وأن أيديهم لاتصل إليه، والعقل لم يكن مانعا من أكل الملائكة الطعام وإنما علم ذلك بالإجماع وبهذه الآية، وإلا ما كان يجوز أن يقدم إبراهيم الطعام مع علمه بانهم ملائكة. ويجوز بأن يأكلوه، وإنما جاز أن يتصور الملائكة في صورة البشر مع ما فيه من الإيهام لأنهم أتوه به دلالة، وكان فيه مصلحة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تمامُ إحسانِ الضيف أن تتناولَ يَدُه ما يُقَدَّم إليه من الطعام، والامتناعُ عن أكل ما يُقَدَّم إليه معدودٌ في جملة الجفاء في مذهب أهل الظَّرْف. والأكل في الدعوة واجبٌ على أحد الوجهين. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}: أي خاف أنه وقع له خَلَلٌ في حاله حيث امتنع الضّيفان عن أكل طعامه؛ فأوجس الخيفةَ لهم لا منهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا {فَأَوْجَسَ} فأضمر. وإنما قالوا: {لاَ تَخَفْ} لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه، أو عرفوه بتعريف الله، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا؟... وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايلَ الخوفِ إزالةً له منه بل بعد إظهارِه عليه الصلاة والسلام له قال تعالى في سورة الحِجر: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} ولم يُذكر ذلك هاهنا اكتفاءً بذلك {إِنَّا أُرْسِلْنَا} ظاهرُه أنه استئنافٌ في معنى التعليلِ للنهي المذكورِ كما أن قولَه تعالى: {إِنَّا نُبَشّرُكَ} [الحجر، الآية 53] تعليلٌ لذلك فإن إرسالَهم إلى قوم آخرين يوجب أمنَهم من الخوف أي أُرسلنا بالعذاب {إلى قَوْمِ لُوطٍ} خاصةً إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إنا أرسلنا إلى قَوْمٍ مجْرِمِينَ} [الحجر: 57، 58] صريحٌ في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه الصلاة والسلام، وقد أُوجز الكلامُ اكتفاء بذلك...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف، بل أوجس ذلك في نفسه، فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه، أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدلّ على الخوف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما رأى أيديهم لا تصل إليه} أي لا تمتد إليه للتناول منه كما يمد الآكل يده إلى الطعام {نكرهم وأوجس منهم خيفة} نكر الشيء "كعلم وتعب "وأنكره ضد عرفه، أي نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيف، فإن الضيف لا يمتنع من طعام المضيف إلا لريبة أو قصد سيء، وأحس في نفسه خيفة منهم وفزعا، أو أدرك ذلك وأضمر إذ شعر أنهم ليسوا بشرا أو أنهم ربما كانوا من ملائكة العذاب، والوجس "كالوعد" الصوت الخفي ويطلق على ما يعتري النفس من الشعور والخواطر عند الفزع {قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} أي قالوا وقد علموا ما يساور نفسه من الوجس: لا تخف فنحن لا نريد بك سوءا وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، ولوط ابن أخيه، وأول من آمن به، وكان مكانه من مهاجره قريبا من مكانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنّما نكرهم لأنّه حسب أنّ إمساكهم عن الأكل لأجل التبرّؤ من طعامه، وإنّما يكون ذلك في عادة النّاس في ذلك الزّمان إذا كان النّازل بالبيت يضمر شرّاً لمضيّفه، لأنّ أكل طعام القرى كالعهد على السّلامة من الأذى، لأنّ الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة، فإذا انكفّ أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنّه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفوراً للإحسان. ولذلك عقب قوله {نكرهم} ب {أوجس منهم خيفة}، أي أحسّ في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك. ومصدره الإيجاس. وذلك أنّه خشي أن يكونوا مضمرين شرّاً له، أي حسبهم قطّاعاً، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم عليه السّلام وحده...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فلما رأى أيديهم لا تصل إليه} مبالغة في الامتناع عن الأكل إذ لم تتحرك أيديهم بل بقيت في مكانها لا تمتد إليه، ولما رأى ذلك أحس أنهم غرباء عنه، وعن جملة أحاسيسه، إذ إنهم لم يمدوا أيديهم ولم يعتذروا، وعبر الله عن ذلك بقوله تعالى: {نكرهم} وهو بمعنى أنكرهم واستنكر أمرهم، وإن كلمة {نكرهم} تدل على ما هو أبلغ من الإنكار والاستنكار، بل تدل مع ذلك على الوحشة من لقائهم، ولذا قال تعالى بعد ذلك: {وأوجس منهم خيفة}، والإيجاس هو الإدراك بالحس، والخيفة الخوف الشديد الذي يظهر في الهيئة؛ لأن خيفة اسم هيئة من الخوف، أي أدركوا سببا للخوف وظهر الخوف في هيئته عليه السلام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} فلم يدرك سبباً لذلك لأنه مخالف للأمر المألوف في سلوك الضيف مع صاحب البيت، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} نظراً للغموض الذي لف الموقف، فهو لا يعرفهم بأشخاصهم، والامتناع عن الأكل يوحي في عرف الناس آنذاك بالعداوة وبإضمار الشرّ للمضيف، مما جعله يحس بالخوف والقلق، ولا مانع من حدوث مثل ذلك للأنبياء الذين يعيشون الضعف البشريّ الذي تخضع له المشاعر الذاتيّة، ولكن بالمستوى الذي لا يؤدّي إلى السقوط في المعصية، ولا يوحي بالانسحاق، ولا يمنع من العصمة. ولعلّ سر عظمتهم في تمثَّلهم خط التوازن بين نقاط الضعف التي تؤكد بشريتهم، ونقاط القوة التي تنطلق من حركة الإيمان والرسالة في روحيتهم، فلا مشكلة في إحساس الإنسان بالخوف، بل في الاستسلام له، وليس الخوف حالة سلبيّةً في ذاته، بل قد يكون حالةً إيجابيّةً بما يشكله من حمايةٍ للإنسان من الأخطار المهلكة التي تحيط به. ولذا كان إبراهيم خاضعاً لتأثير هذه الحالة الطبيعية من الإحساس بالخوف أمام ظاهرةٍ، غامضةٍ فاجأته بما يشبه الصدمة، ولكن الملائكة لم يأتوا ليخلقوا عقدة الخوف، وليثيروا في داخله القلق، {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} فلسنا من البشر، ولا نريد بك شرّاً، بل نحن مرسلون إلى قوم لوط لأداء مهمّةٍ إلهيةٍ، تستهدف إهلاكهم بالطريقة التي أمرنا الله بها...