البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ} (70)

أوجس الرجل قال الأخفش : خامر قلبه ، وقال الفراء : استشعر ، وقيل : أحس .

والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسس .

قال :

وصادقتا سمع التوجس للسرى *** لهجس خفي أو لصوت مندد

والمعنى : لا يمدون أيديهم إلى أكله ، فلم ينف الوصول الناشىء عن المد بل جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل .

نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقيل : نكر فيما يرى ، وأنكر فيما لا يرى من المعاني ، فكأنّ الشاعر قال : وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر .

ومنه قول أبي ذؤيب :

فنكرنه فنفرن وامترست به *** هو جاء هادية وهاد جرشع

وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أو لا ويكون بتلفت ومسارعة ، لا بتحديد النظر ، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل .

قيل : كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً .

وقيل : كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه .

قال الزمخشري : ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه ، أو لتعذيب قومه .

ألا ترى إلى قولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا .

قال مقاتل : فأوجس وقع في قلبه .

وقال الحسن : حدث به نفسه ، قيل : وأصل الوجوس الدخول ، فكأن الخوف دخل عليه .

والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر ، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف ، فلذلك جاؤوا في صورهم ، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم ، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر ، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فنهوه عن شيء وقع في نفسه ، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى : { يعلمون ما تفعلون } وفي الحديث الصحيح : « قالت الملائكة ربي عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة » الحديث ، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف .